دلع المنصور
2008-11-28, 03:51 PM
كان وهج الشمس التموزية كسوط يلهب ظهري ورأسي . ولم تجد نفعاً تلك الصحيفة التي جعلت منها مظلة لأحمي بها جلدة رأسي المتخفيّة تحت شعرات متلاصقة بطريقة فنية , ومصمّغة بالزيت , وبعناية فائقة لأمنع تطايرها الكيفي .
ظل العرق المالح يتصفد فوق جبيني وينساح ليتجمع عند شاربي المرتب , ويتوزع الى خطوط متنافرة تنزلق من ذقني مروراً برقبتي , رغم المنديل الذي طويته مرات ليحتضن بحنان ياقة قميصي , قميصي الذي طالما نلت بسببه أو بسبب ذلك الشيْ الأدكن , الملتصق بياقته , لوم زوجتي وتأنيبها القاسيين , وهي تدعكه بصعوبة ومشقة , لتزيله ..
تمر الساعة وأجزاؤها متباطئة كسلى وثقيلة , وقد زاد من ثقلها هذا الحر المجنون واللامعقول , والغيض من أولئك الذين يستقلون السيارات الفارهة , وقد أغلقوا زجاج نوافذها ليستطيبوا بنسيم ذلك الهواء المبرّد , الذي ينساح شفيفاً على وجوههم , وهم يستمعون الى أغنية العصر " سوه .. ياسوه .. حبيبي حبسوه !! " ..
انتظرت طويلاً في مرأب السيارات , حيث تتعالى أصوات المنبهات , ولغط الناس , لتمتزج برائحة الدهون المحترقة المتطايرة بحرية من عربات بائعي البيض المقلي والباذنجان , والتي استحالت أحواضها بفعل ذلك السائل المسمى زيتاً , الى بركة تشبه القار أو النفط الأسود . ومع روائح الدخان المنبعث من " عوادم " السيارات , وأصوات بائعي السجائر والصحف , الذين افترشوا الإسفلت الساخن , وقد صنعوا مظلات من مواد رخيصة , لا تمنع خيوط الشمس الملتهبة أو تحجبها , من أن تمرق من ثقوبها .
صرت معتاداً على هذه التشكيلة " السوريالية " عند انتهاء الدوام , وبداية البحث عن شيء ثمين إسمه السيارة . لدرجة ألغت بعضاً أو كلاً من توازني , حين تلوح سيارة قادمة , فتراني راكضاً مع الراكضين , أو متدافعاً مع المتدافعين , ممنياً النفس بنيل مقعد أو موطيء قدم . وللحقيقة أقول , كنت أأنف من هذه الطريقة التي أعدها بعيدة عن الكياسة واللياقة والذوق , وخصوصاً معي أنا ذلك المربي , الذي أمضى أكثر من أربعين عاماً , حينما اخترت - طائعا - أن أكون شمعة , سرعان ما ذوت , تاركة أقباساً من نور وفنارات , لم يخفت ضوءها , حين انتبذت لها مكاناً في تلك العقول الطرية , والنفوس الوليدة أملاً وتأملات , وعيون مسها الوهن , وما عادت تمّيز بين الحرف والكلمة , أو بين سيارة الأجرة والخصوصي , وأقدام بانت شرايينها وأوردتها وما كلّت أو ملّت .
تمر الدقائق مثقلة , والشمس تتّقد , والعشرات من الناس يتقاطرون زرافات ووحدانا . لينظموا الى ذلك الزحام , ويزيدونه زحاماً . وهنا جاءت سيارة تتهادى بخيلاء , وهي تنفث دخانها الأسود , فأقسمت أن أصعد إليها مهما كان الثمن - ولا أقصد ثمن الأجرة - فقبل قليل , مرقَ صبيّ من بين الأرجل , وبحركة شيطانية , إحتل له مكاناً , ومد رأسه الأشعث من النافذة , وأخرج لسانه , ومطَّ شفتيه الدسمتين , ليغيض الواقفين ..
تدافعت الجموع كأنها طوفان , وكنت - بالطبع - أول المتدافعين .. إزداد الصراخ واللغط وعبارات التأنيب علت و و و .... هنا شعرت بعظامي تهصر , وأنا أحاصر بين الباب وذلك العمود اللعين , الذي أطبق بقوة على ما بين فخذي .. يا الله .. لقد جاء الفرج .. وها هو جسدي يرتفع ويعلو .. دفعة أخرى وتصل قدمي الى الدواسة .. جسدي يرتفع الآن أعلى .. أعلى .. المتدفعون يصرخون .. عدت بذاكرتي الى الوراء بعيداً , حينما كنت طالباً والجماهير تحملني على الأكتاف .. نفس المشهد يتكرر .. نفس الموقف , مع فارق في الحدث .. كنت حينها أهتف بسقوط الأنجليز , ومعاهدة بورتسموث .. أمسكت بي الشرطة , أفلتتني من بين أيدي المتظاهرين , ورمتني داخل سيارة الشرطة , تشبه القفص , والركلات والهراوات تنهال على كل مسامة في جسدي النحيل ....
إستفقت لأجد نفسي مرمياً على مقعد خلف السائق . إستدرت لأفتح النافذة , علّني أستنشق شيئاً من الهواء , لأرطب به صدري , بسبب الجو الخانق , ورائحة العرق والأفواه التي تزكم الأنوف .. أحسست بلزوجة تحت قميصي .. ربما يكون العرق أو .. - قلت لنفسي - مددت يدي الى جيب القميص لأخرج النقود , يا إلهي .. قلم الحبر تكسّر داخل جيب القميص , ليحيل جزءاً من صدري والقميص الى خارطة سوداء .. اللعنة على هذا الزحام .. سحبت المنديل الذي كان يحتضن ياقة القميص , وبدأت أجفف ما أستطيع تجفيفه .. لاحت أمامي سحنة زوجتي , بحاجبيها الكثّين , وشفتيها المزبدتين المتلاطمتين .. ماذا يا ترى سيكون رد فعلها عندما تشاهد تلك الكارثة , التي حلّت بزوجها وبقميصه ومنديله ؟ ؟ .. يا ترى هل .. ؟؟ قلت لنفسي : دعها تفعل ما بدى لها , فأنا معتاد على سماع مالم يسمعه غيري منها .. وهنا التفت السائق بكل جسده الممتليء , الى الركاب وبصوته الأجش صاح في الجميع :
- إخواني .. انزلواجميعاً .. فالسيارة عاطلة !!
:Smiles Lot 1 (16):
ظل العرق المالح يتصفد فوق جبيني وينساح ليتجمع عند شاربي المرتب , ويتوزع الى خطوط متنافرة تنزلق من ذقني مروراً برقبتي , رغم المنديل الذي طويته مرات ليحتضن بحنان ياقة قميصي , قميصي الذي طالما نلت بسببه أو بسبب ذلك الشيْ الأدكن , الملتصق بياقته , لوم زوجتي وتأنيبها القاسيين , وهي تدعكه بصعوبة ومشقة , لتزيله ..
تمر الساعة وأجزاؤها متباطئة كسلى وثقيلة , وقد زاد من ثقلها هذا الحر المجنون واللامعقول , والغيض من أولئك الذين يستقلون السيارات الفارهة , وقد أغلقوا زجاج نوافذها ليستطيبوا بنسيم ذلك الهواء المبرّد , الذي ينساح شفيفاً على وجوههم , وهم يستمعون الى أغنية العصر " سوه .. ياسوه .. حبيبي حبسوه !! " ..
انتظرت طويلاً في مرأب السيارات , حيث تتعالى أصوات المنبهات , ولغط الناس , لتمتزج برائحة الدهون المحترقة المتطايرة بحرية من عربات بائعي البيض المقلي والباذنجان , والتي استحالت أحواضها بفعل ذلك السائل المسمى زيتاً , الى بركة تشبه القار أو النفط الأسود . ومع روائح الدخان المنبعث من " عوادم " السيارات , وأصوات بائعي السجائر والصحف , الذين افترشوا الإسفلت الساخن , وقد صنعوا مظلات من مواد رخيصة , لا تمنع خيوط الشمس الملتهبة أو تحجبها , من أن تمرق من ثقوبها .
صرت معتاداً على هذه التشكيلة " السوريالية " عند انتهاء الدوام , وبداية البحث عن شيء ثمين إسمه السيارة . لدرجة ألغت بعضاً أو كلاً من توازني , حين تلوح سيارة قادمة , فتراني راكضاً مع الراكضين , أو متدافعاً مع المتدافعين , ممنياً النفس بنيل مقعد أو موطيء قدم . وللحقيقة أقول , كنت أأنف من هذه الطريقة التي أعدها بعيدة عن الكياسة واللياقة والذوق , وخصوصاً معي أنا ذلك المربي , الذي أمضى أكثر من أربعين عاماً , حينما اخترت - طائعا - أن أكون شمعة , سرعان ما ذوت , تاركة أقباساً من نور وفنارات , لم يخفت ضوءها , حين انتبذت لها مكاناً في تلك العقول الطرية , والنفوس الوليدة أملاً وتأملات , وعيون مسها الوهن , وما عادت تمّيز بين الحرف والكلمة , أو بين سيارة الأجرة والخصوصي , وأقدام بانت شرايينها وأوردتها وما كلّت أو ملّت .
تمر الدقائق مثقلة , والشمس تتّقد , والعشرات من الناس يتقاطرون زرافات ووحدانا . لينظموا الى ذلك الزحام , ويزيدونه زحاماً . وهنا جاءت سيارة تتهادى بخيلاء , وهي تنفث دخانها الأسود , فأقسمت أن أصعد إليها مهما كان الثمن - ولا أقصد ثمن الأجرة - فقبل قليل , مرقَ صبيّ من بين الأرجل , وبحركة شيطانية , إحتل له مكاناً , ومد رأسه الأشعث من النافذة , وأخرج لسانه , ومطَّ شفتيه الدسمتين , ليغيض الواقفين ..
تدافعت الجموع كأنها طوفان , وكنت - بالطبع - أول المتدافعين .. إزداد الصراخ واللغط وعبارات التأنيب علت و و و .... هنا شعرت بعظامي تهصر , وأنا أحاصر بين الباب وذلك العمود اللعين , الذي أطبق بقوة على ما بين فخذي .. يا الله .. لقد جاء الفرج .. وها هو جسدي يرتفع ويعلو .. دفعة أخرى وتصل قدمي الى الدواسة .. جسدي يرتفع الآن أعلى .. أعلى .. المتدفعون يصرخون .. عدت بذاكرتي الى الوراء بعيداً , حينما كنت طالباً والجماهير تحملني على الأكتاف .. نفس المشهد يتكرر .. نفس الموقف , مع فارق في الحدث .. كنت حينها أهتف بسقوط الأنجليز , ومعاهدة بورتسموث .. أمسكت بي الشرطة , أفلتتني من بين أيدي المتظاهرين , ورمتني داخل سيارة الشرطة , تشبه القفص , والركلات والهراوات تنهال على كل مسامة في جسدي النحيل ....
إستفقت لأجد نفسي مرمياً على مقعد خلف السائق . إستدرت لأفتح النافذة , علّني أستنشق شيئاً من الهواء , لأرطب به صدري , بسبب الجو الخانق , ورائحة العرق والأفواه التي تزكم الأنوف .. أحسست بلزوجة تحت قميصي .. ربما يكون العرق أو .. - قلت لنفسي - مددت يدي الى جيب القميص لأخرج النقود , يا إلهي .. قلم الحبر تكسّر داخل جيب القميص , ليحيل جزءاً من صدري والقميص الى خارطة سوداء .. اللعنة على هذا الزحام .. سحبت المنديل الذي كان يحتضن ياقة القميص , وبدأت أجفف ما أستطيع تجفيفه .. لاحت أمامي سحنة زوجتي , بحاجبيها الكثّين , وشفتيها المزبدتين المتلاطمتين .. ماذا يا ترى سيكون رد فعلها عندما تشاهد تلك الكارثة , التي حلّت بزوجها وبقميصه ومنديله ؟ ؟ .. يا ترى هل .. ؟؟ قلت لنفسي : دعها تفعل ما بدى لها , فأنا معتاد على سماع مالم يسمعه غيري منها .. وهنا التفت السائق بكل جسده الممتليء , الى الركاب وبصوته الأجش صاح في الجميع :
- إخواني .. انزلواجميعاً .. فالسيارة عاطلة !!
:Smiles Lot 1 (16):