الزهراء (ع) مقامها وعصمتها
بداية وتوطئة:
سنبدأ حديثنا في هذا الفصل عن تاريخ ميلاد الزهراء (ع) لأن البعض يحاول أن يتحاشى، بل يأبى الالزام أو الالتزام بما ورد عن النبي الكريم (ص)، وعن الأئمة الطاهرين عليهم السلام، من أنها (ع) قد ولدت من ثمر الجنة بعد الإسراء والمعراج، أو يحاول تحاشي الالتزام بأنها عليها السلام قد تزوجت من علي (ع) في سن مبكر، لأنه يشعر بدرجة من الاحراج على مستوى الاقناع، يؤثر أن لا يعرض نفسه له.. وقد لا يكون هذا ولا ذاك، بل ربما أمر آخر، هو الذي يدعوه إلى اتخاذ هذا الموقف والله هو العالم بحقائق الأمور، والمطلع على ما في الصدور. ثم نتحدث بعد ذلك، عن أمور لها ارتباط قريب بشأن عصمة الأنبياء، والأوصياء، والأولياء عليهم السلام لا سيما عصمة الصديقة الطاهرة صلوات الله وسلامه عليها. وسيكون حديثنا هذا عن العصمة مدخلا مقبولا وتمهيدا لعرض بعض الحديث عن منازل الكرامة، ودرجات القرب والزلفى لسيدة نساء العالمين عليها الصلاة والسلام، في ظل الرعاية الربانية، والتربية الإلهية، دون أن نهمل الإشارة إلى موضوع ارتباطها بالغيب، الذي تمثل بما حباها الله سبحانه وتعالى به من صفات وخصوصيات
ص 36
وكرامات ميزتها عن سائر نساء العالمين. فكانت المرأة التي تحتفل السما ء قبل الأرض بزواجها من علي عليه الصلاة والسلام، وكانت أيضا المرأة الطاهرة المطهرة عن كل رجس ودنس ونقص، حتى لقد نزهها الله عما يعتري النساء عادة من حالات خاصة بهن دون أن يكون لذلك أي تأثير سلبي على شخصيتها فيما يرتبط بشأن الحمل، والولادة. ثم إننا: قبل أن نخرج من دائرة كراماتها الجلي، وميزاتها وصفاتها الفضلى، كانت لنا إلمامة سريعة بما حباها الله به من علم متصل بالغيب، أتحفها الله به بواسطة ملك كريم كان يحدثها ويسليها بعد وفاة أبيها، الأمر الذي أنتج كتابا هاما جدا، كان الأئمة الأطهار عليهم الصلاة والسلام يهتمون، به ويعتزون به، وكانوا يقرأون فيه، وينقلون عنه وهو ما عرف ب مصحف فاطمة عليها السلام، بالإضافة إلى كتب أخرى اختصت بها صلوات الله وسلامه عليها. إننا سنقرأ لمحات عن ذلك كله في هذا الفصل، مع توخي سلامة الاختيار ومراعاة الاختصار قدر الإمكان.. وبالله التوفيق، ومنه الهدى والرشاد. متى ولدت الزهراء عليها السلام؟ إن أول ما يطالعنا في حياة الصديقة الطاهرة هو تاريخ ولادتها عليها السلام. حيث يدعي البعض أنها عليها السلام قد ولدت قبل البعثة بخمس سنوات؟!
ص 37
ونقول: إن ذلك غير صحيح. والصحيح هو ما عليه شيعة أهل البيت (ع)، تبعا لأئمتهم (ع) (1) - وأهل البيت أدرى بما فيه - وقد تابعهم عليه جماعة آخرون، وهو: أنها عليها السلام قد ولدت بعد البعثة بخمس سنوات، أي في سنة الهجرة إلى الحبشة، وقد توفيت وعمرها ثمانية عشر عاما. وقد روي ذلك عن أئمتنا (ع) بسند صحيح (2). مضافا إلى هذا. فمن الممكن الاستدلال على ذلك أو تأييده بما يلي: 1 - ما ذكره عدد من المؤرخين من أن جميع أولاد خديجة رحمها الله قد ولدوا بعد البعثة (3)، وفاطمة (ع) كانت أصغرهم. 2 - الروايات الكثيرة المروية عن عدد من الصحابة، مثل: عائشة وعمر بن الخطاب وسعد بن مالك وابن عباس وغيرهم، التي تدل على أن نطفتها عليها السلام قد انعقدت من ثمر الجنة، الذي
(هامش)
(1) راجع ضياء العالمين: ج 2 ق 3 ص 2 مخطوط وجامع الأصول لابن الأثير: ج 12 ص 9 و10. (2) البحار: ج 43 ص 101 عن الكافي بسند صحيح، وعن المصباح الكبير، ودلائل الإمامة ومصابح الكفعمي، والروضة، ومناقب ابن شهر آشوب، وكشف الغمة: ج 2 ص 75 وإثبات الوصية وراجع: ذخائر العقبى: ص 52 وراجع أيضا: تاريخ الخميس ج 1 ص 278 عن كتاب تاريخ مواليد أهل البيت للإمام أحمد بن نصر بن عبد الله الدراع، وراجع: مروج الذهب ج 2 ص 289 وغير ذلك. (3) راجع: البدء والتاريخ: ج 5 ص 16 والمواهب اللدنية: ج 1 ص 196 وتاريخ الخميس: ج 1 ص 272. (*)
ص 38
تناوله النبي (ص) حين الإسراء والمعراج (1)، الذي أثبتنا أنه قد حصل في أوائل البعثة (2). وإذا كان في الناس من يناقش في أسانيد بعض هذه الروايات
(هامش)
(1) تجد هذه الروايات في كتب الشيعة، مثل البحار: ج 43 ص 4 و5 و6 عن أمالي الصدوق، وعيون أخبار الرضا، ومعاني الأخبار، وعلل الشرائع، وتفسير القمي، والاحتجاج. وغير ذلك، وراجع: الأنوار النعمانية: ج 1 ص 80. وأي كتاب حديثي أو تاريخي تحدث عن تاريخ الزهراء (عليها السلام). وتجدها في كتب غيرهم، مثل: المستدرك على الصحيحين: ج 3 ص 156 وتلخيص المستدرك للذهبي (مطبوع بهامش المستدرك) نفس الجزء والصفحة، ونزل الأبرار: ص 88 والدر المنثور: ج 4 ص 153 وتاريخ بغداد: ج 5 ص 87 ومناقب الإمام علي بن أبي طالب لابن المغازلي: ص 357 وتاريخ الخميس: ج 1 ص 277 وذخائر العقبى: ص 36 ولسان الميزان: ج 1 ص 134 واللآلئ المصنوعة: ج 1 ص 392 والدرة اليتيمة في بعض فضائل السيدة العظيمة: ص 31. ونقله في إحقاق الحق (قسم الملحقات): ج 10 ص 1 - 10 عن بعض من تقدم وعن ميزان الاعتدال، والروض الفائق، ونزهة المجالس، ومجمع الزوائد، وكنز العمال، ومنتخب كنز العمال، ومحاضرة الأوائل، ومقتل الحسين للخوارزمي، ومفتاح النجاة، والمناقب لعبد الله الشافعي، وإعراب ثلاثين سورة، وأخبار الدول. وقد تحدث في كتاب ضياء العالمين: ج 4 ص 4 و5 مخطوط عن هذا الأمر، وذكر طائفة كبيرة من المصادر الأخرى. وثمة مصادر أخرى ذكرناها حين الحديث حول الإسراء والمعراج في كتابنا الصحيح من سيرة النبي الأعظم (ص)، فراجع. (2) راجع كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (ص): ج 3 مبحث الإسراء والمعراج. (*)
ص 39
على طريقته الخاصة، فإن البعض الآخر منها لا مجال للنقاش فيه، حتى بناء على هذه الطريقة أيضا. وأما ما يزعم من أن هذه الرواية لا تصح، لأن الزهراء قد ولدت قبل البعثة بخمس سنوات، فهو مصادرة على المطلوب، إذ أن هذه الروايات التي نحن بصدد الحديث عنها - وقد رويت بطرق مختلفة - أقوى شاهد على عدم صحة ذلك الزعم. 3 - قد روى النسائي: أنه لما خطب أبو بكر وعمر فاطمة (ع) ردهما النبي (ص) متعللا بصغر سنها (1). فلو صح قولهم: إنها ولدت قبل البعثة بخمس سنوات، فإن عمرها حينما خطباها بعد الهجرة - كما هو مجمع عليه عند المؤرخين - يكون حوالي ثمانية عشر أو تسعة عشر سنة، فلا يقال لمن هي في مثل هذا السن: إنها صغيرة. 4 - قد روي: أن نساء قريش هجرن خديجة رحمها الله، فلما حملت بفاطمة كانت تحدثها من بطنها وتصبرها (2). وقد يستبعد البعض حمل خديجة بفاطمة (ع) بعد البعثة بخمس سنوات، لأن عمر خديجة (رض) حينئذ كان لا يسمح بذلك. ولكنه استبعاد في غير محله، إذ قد حققنا في كتاب الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن عمرها كان
(هامش)
(1) راجع: خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ص 228 بتحقيق المحمودي، والمناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 393 (ط دار الأضواء) وتذكرة الخواص: ص 306 و307، وضياء العالمين: ج 2 ق 3 ص 46 مخطوط . (2) البحار: ج 43 ص 2. (*)
ص 40
حينئذ حوالي خمسين سنة، بل أقل من ذلك أيضا، على ما هو الأقوى، وإن اشتهر خلاف ذلك. واحتمال أن يكون ذلك - أي ولادتها بعد سن اليأس - قد جاء على سبيل الكرامة لخديجة والرسول الله (ص) على غرار قوله تعالى: أألد وأنا عجوز . غير وارد هنا، إذ لو كان الأمر كذلك لكان قد شاع وذاع، مع أننا لا نجد أية إشارة تدل على ذلك. 5 - ويدل على ذلك أيضا الأحاديث الكثيرة التي ذكرت سبب تسميتها بفاطمة، وبغير ذلك من أسماء، حيث تشير وتدل على أن هذه التسمية قد جاءت من السماء بأمر من الله عز وجل. وهي روايات كثيرة موجودة في مختلف المصادر، فلتراجع ثمة (1).
(هامش)
(1) راجع: ينابيع المودة وكنز العمال: ج 6 ص 219 والمناقب لابن المغازلي: ص 221 و229 وراجع كتاب ضياء العالمين مخطوط : ج 4 ص 6 / 9 ففيه بسط وتتبع، والبحار: ج 43 ص 13 وفي هامشه عن علل الشرائع: ج 1 ص 178 وراجع: ذخائر العقبى: ص 26 وميزان الاعتدال: ج 2 ص 400 وج 3 ص 439 ولسان الميزان: ج 3 ص 267 وطوالع الأنوار: ص 112 / 113 ط سنة 1395 ه تبريز ايران، ومعرفة ما يجب لآل البيت النبوي، لأحمد بن علي المقريزي: ص 51 ط دار الإعتصام بيروت سنة 1392، والبتول الطاهرة لأحمد فهمي: ص 11 / 15. (*)
ص 41
مريم أفضل أم فاطمة عليهما السلام؟ قد يجب البعض عن سؤال: أيهما أفضل مريم بنت عمران (ع) أم فاطمة بنت محمد (ص) بقوله: هذا علم لا ينفع من علمه ولا يضر من جهله، وإنما هو مجرد ترف فكري أحيانا، أو سخافة ورجعية وتخلف أحيانا أخرى. ثم يقول: وإذا كان لا خلاف بين مريم وفاطمة حول هذا الأمر، فلماذا نختلف نحن في ذلك؟ فلفاطمة فضلها، ولمريم فضلها، ولا مشكلة في ذلك. أما نحن فنقول: أولا: لا شك في أن الزهراء عليها السلام هي أفضل نساء العالمين، من الأولين والآخرين، أما مريم فهي سيدة نساء عالمها. وقد روي ذلك عن رسول الله (ص) نفسه، فضلا عما روي عن الأئمة عليهم السلام (1). ويدل على أنها أفضل من مريم كونها سيدة نساء أهل الجنة،
(هامش)
(1) راجع: ذخائر العقبى: ص 43 وسير أعلام النبلاء: ج 2 ص 126 والجوهرة: ص 17 والاستيعاب (مطبوع بهامش الإصابة): ج 4 ص 376 وتاريخ دمشق (ترجمة الإمام علي بتحقيق المحمودي : ج 1 ص 247 - 248 والمجالس السنية: ج 5 ص 63 عن أمالي الصدوق والاستيعاب وشرح الأخبار: ج 3 ص 56 ومقتل الحسين للخوارزمي: ج 1 ص 79 ونظم درر السمطين: ص 178 و179 ومعاني الأخبار: ص 107 وعلل الشرائع: ج 1 ص 182، والبحار: ج 43 ص 37 وج 39 ص 278 وج 37 ص 68، ومناقب ابن شهر آشوب. (*)
ص 42
ومريم من هؤلاء النسوة (1). ويدل على أفضليتها أيضا، ما روي عن الصادق (ع): لولا أن الله تبارك وتعالى خلق أمير المؤمنين لفاطمة ما كان لها كفؤ على ظهر الأرض من آدم ومن دونه (2). وهذا الخبر يدل على أفضلية أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضا. ثانيا: إن سؤالنا عن الأفضلية لا يعني أننا نختلف في ذلك، بل هو استفهام لطلب المزيد من المعرفة بمقامات أولياء الله تعالى التي ورد الحث على طلب المزيد منها، لأنه يوجب مزيدا من المعرفة بالله تعالى. ونحن لو اختلفنا في ذلك فليس هو خلاف الخصومة والعدوان، وإنما هو الخلاف في الرأي، الذي يأخذ بيدنا إلى تقصي الحقيقة وازدياد المعرفة، وتصحيح الخطأ والاشتباه لدى هذا الفريق أو ذلك. ثالثا: إن علينا أن ندرك - كل بحسب قدرته - إن كل ما جاء في كتاب الله تعالى، وكل ما قاله رسول الله (ص) وأوصياؤه عليهم السلام، وأبلغونا إياه، وكل ما ذكر في كتاب الله العزيز، لا بد أن نعرفه بأدق تفاصيله إن استطعنا إلى ذلك سبيلا، وهو علم له أهميته، وهو يضر من جهله، وينفع من علمه. ولا ينحصر ما ينفع علمه بما
(هامش)
(1) راجع الرسائل الاعتقادية: ص 459 عن صحيح البخاري: ج 5 ص 36 وعن الطرائف: ص 262 عن الجمع بين الصحاح الستة ومرآة الجنان: ج 1 ص 61 وضياء العالمين: ج 2 ق 3 ص 19 / 20 و21. (2) راجع الكافي: ج 1 ص 461 والبحار: ج 43 ص 10 و107 وضياء العالمين مخطوط : ج 2 ق 3 ص 11 عن عيون المعجزات: وص 48 عن كتاب الفردوس. (*)
ص 43
يرتبط بالأمور السياسية فقط، أو المالية، أو الاجتماعية، أو التنظيمية، والممارسة اليومية للعبادات أو ما إلى ذلك. وذلك لأن للانسان حركة في صراط التكامل ينجزها باختياره وجده، وبعمله الدائب، وهو ينطلق في حركته هذه من إيمانه، ويرتكز إلى درجة يقينه، وهذا الإيمان وذلك اليقين لهما رافد من المعرفة بأسرار الحياة، ودقائقها، وبملكوت الله سبحانه، وبأسرار الخليقة، ومن المعرفة بالله سبحانه، وبصفاته وأنبيائه وأوليائه الذين اصطفاهم، وما لهم من مقامات وكرامات، وما نالوه من درجات القرب والرضا، وما أعده الله لهم من منازل الكرامة، كمعرفتنا بأن الله سبحانه هو الذي سمى فاطمة (1)، وهو الذي زوجها في السماء قبل الأرض (2)، وبأنها كانت تحدث أمها وهي في بطنها (3)، وغير ذلك. وهذه المعرفة تزيد في صفاء الروح ورسوخ الإيمان، ومعرفة النفس الموصلة إلى معرفة الرب سبحانه. ومن الواضح: أن مقامات الأنبياء والأوصياء والأولياء، ودرجات فضلهم قد سمت وتفاوتت بدرجات تفاوت معرفتهم بذلك كله.
(هامش)
(1) البحار: ج 43 ص 13 ح 7 عن علل الشرائع: ج 1 ص 178 ح 2. (2) ذخائر العقبى: ص 31 وراجع كشف الغمة: ج 2 ص 98 وكنوز الحقائق للمناوي بهامش الجامع الصغير: ج 2 ص 75 والبحار: ج 43 ص 141 و145. (3) فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد للقزويني: ص 39 والبحار: ج 43 ص 2 ونزهة المجالس: ج 2 ص 227 وضياء العالمين: ج 2 ق 3 ص 27. 38 مخطوط . (*)
ص 44
غير أن بعض المعارف قد تحتاج إلى مقدمات تسهل علينا استيعابها، وتؤهلنا للاستفادة منها بالنحو المناسب، فتمس الحاجة إلى التدرج في طي مراحل في هذا السبيل، تماما كطالب الصف الأول، فإنه لا يستطيع عادة أن يستوعب - بالمستوى المطلوب - المادة التي تلقى على طلاب الصف الذي هو في مرحلة أعلى كالطالب الجامعي مثلا، بل لا بد له من طي مراحل تعده لفهم واستيعاب ذلك كله تمهيدا للانتفاع به. وكلما قرب الإنسان من الله، زادت حاجته إلى معارف جديدة تتناسب مع موقعه القربى الجديد، واحتاج إلى المزيد من الصفاء، والطهر، وإلى صياغة مشاعره وأحاسيسه وانفعالاته، بل كل واقعه وفقا لهذه المستجدات. وهذا شأن له أصالته وواقعيته ولا يتناسب مع مقولة: هذا علم لا ينفع من علمه ولا يضر من جهله. وإذا كان الإمام الصادق عليه السلام لم يترفع عن الخوض في أمر كهذا، حين سئل عن هذا الموضوع فأجاب. فهل يصح منا نحن أن نترفع عن أمر تصدى للإجابة عنه الإمام (ع) دونما اضطرار، وهو الأسوة والقدوة؟!. إذن.. نحن بحاجة لمعرفة ما لفاطمة (ع) من مقام علي وكرامة عند الله، ومعرفة ما لها من فضل على باقي الخلائق، وبحاجة إلى معرفة أنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وأنها أفضل من مريم (ع)، ومن كل من سواها، حتى لو كانت مريم (ع) سيدة نساء عالمها.
ص 45
إننا بحاجة إلى ذلك، لأنه يعمق ارتباطنا بفاطمة عليها السلام، ويدخل فاطمة إلى قلوبنا، ويمزجها بالروح وبالمشاعر وبالأحاسيس، ليزداد تفاعلنا مع ما تقول وما تفعل، ونحس بما تحس، ونشعر بما تشعر، ونحب من وما تحب، ونبغض من وما تبغض، ويؤلمنا ما يؤلمها ويفرحنا ما يفرحها، فيزيدنا ذلك خلوصا وطهرا وصفاء ونقاء، ومن ثم هو يزيد في معرفتنا بحقيقة ظالميها والمعتدين عليها، ويعرفنا حجم ما ارتكب في حقها، ومدى سوء ذلك وقبحه. قيمة الزهراء عليها السلام: قد يتساءل بعض الناس، ويقول: إن إشراك الزهراء (ع) في قضية المباهلة لا دلالة له على عظيم ما لها (ع) من قيمة وفضل، فإنه (ص) إنما جاء بأهل بيته (ع)، لأنهم أعز الخلق عليه، وأحبهم إليه، ليثبت أنه على استعداد للتضحية حتى بهؤلاء من أجل هذا الدين، ولا دلالة في هذا على شيء آخر. ونقول في الجواب: لقد أشرك الله سبحانه الزهراء في قضية لها مساس ببقاء هذا الدين، وحقانيته، وهي تلامس جوهر الإيمان فيه إلى قيام الساعة، وذلك لأن ما يراد إثباته بالمباهلة هو بشرية عيسى عليه السلام، ونفي ألوهيته. وقد خلد القرآن الكريم لها هذه المشاركة لكي يظهر أنها عليها السلام قد بلغت في كمالها وسؤددها وفضلها مبلغا عظيما، وبحيث جعلها الله سبحانه وتعالى بالإضافة إلى النبي والوصي والسبطين، وثيقة على صدق النبي (ص) فيما يقول، حيث إن الله سبحانه هو
ص 46
الذي أمر نبيه (ص) بالمباهلة بهؤلاء، ولم يكن ذلك في أساسه من تلقاء نفسه (ص). إذن، لم يكن ذلك لأنهم عائلته، وأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم، بل لأن فاطمة صلوات الله وسلامه عليها، والنبي (ص) وعلي والحسنان عليهم السلام، كانوا - وهم كذلك - أعز ما في هذا الوجود، وأكرم المخلوقات على الله سبحانه، بحيث ظهر أنه تعالى يريد أن يفهم الناس جميعا أن التفريط بهؤلاء الصفوة الزاكية هو تفريط بكل شيء، ولا قيمة لأي شيء في هذا الوجود بدونهم، وهو ما أشير إليه في الحديث الشريف (1). ثم إن إخراج أكثر من رجل وحصر عنصر المرأة بالزهراء عليها السلام في هذه القضية إنما يشير إلى أن أيا من النساء لم تكن لتداني الزهراء في المقام والسؤدد والكرامة عند الله سبحانه وتعالى فلا مجال لادعاء أي صفة يمكن أن تجعل لغيرها عليها السلام امتيازا وفضلا على سائر النساء. فما يدعي لبعض نسائه (ص) - كعائشة - من مقام وفضل على نساء الأمة، لا يمكن أن يصح خصوصا مع ملاحظة ما صدر عنها بعد وفاة رسول الله (ص) من الخروج على الإمام أمير المؤمنين (ع)، والتصدي لحرب وصي رسول رب العالمين، مما تسبب بإزهاق عدد كبير جدا من الأرواح البريئة من أهل الإيمان والإسلام، فأطلع الشيطان قرنه من حيث أشار النبي (ص) وصدق الله العظيم
(هامش)
(1) راجع الكافي: ج 1 ص 179 و198 والغيبة للنعماني: ص 139 و138 وبصائر الدرجات: ص 488 و489 وراجع: الصحيح من سيرة النبي الأعظم (ص): ج 8 ص 359 عنهم. (*)
ص 47
رد: الزهراء (ع) مقامها وعصمتها
ص 47
وصدق رسوله الكريم. إذن، فلا يصح اعتبار ما صدر عنها من معصية الله مسوغا لممارسة المرأة للعمل السياسي - كما ربما يدعي البعض - ولا يكون قرينة على رضى الإسلام بهذا الأمر، أو عدم رضاه. أما ما صدر عن الزهراء (ع) فهو المعيار وهو الميزان لأنه كان في طاعة الله وهي المرأة المطهرة المعصومة التي يستدل بقولها وبفعلها على الحكم الشرعي، سياسيا كان أو غيره. سيدة نساء العالمين: من الواضح: أن التنظير، وإعطاء الضابطة الفكرية، أو إصدار الأحكام لا يعطي الحكم أو الفكرة أو الضابطة من الثبات والقوة والتجذر في النفوس ما يعطيه تجسيدها، وصيرورتها واقعا حيا ومتحركا، لأن الدليل العقلي أو الفطري مثلا قد يقنع الإنسان ويهيمن عليه، ولكن تجسد الفكرة يمنح الإنسان رضا بها، وثقة وسكونا إليها، على قاعدة: *(قال: أو لم تؤمن؟ قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي)*(1). فالقناعة الفكرية والعقلية والعملية، التي تستند إلى البرهان والحجة القاطعة متوفرة وليس فيها أي خلل أو نقص، ولكن سكون النفس قد يحتاج إلى تجسيد الفكرة في الواقع الخارجي ليتلائم السكون النفسي ويتناغم مع تلك القناعة الفكرية والعقلية الراسخة، ليكونا معا الرافد الثر للمشاعر والأحاسيس. وقد كانت الزهراء عليها السلام أول امرأة تجسدت فيها الأسوة
(هامش)
(1) سورة البقرة: 260. (*)
ص 48
والنموذج والمثل الأعلى لكل نساء العالمين، بعد مسيرة طويلة للإنسانية، كمل فيها عدد من النساء حتى كانت فاطمة ذروة هذا الكمال. وكما تجسد الإنسان الكامل بآدم عليه السلام أولا ليكون واقعا حيا، يعيش إنسانيته بصورة متوازنة، لا عشوائية فيها، يعيشها بكل خصائصها وميزاتها، وبكل خلوصها وصفائها وطهرها، وبكل طاقاتها: فكرا، وعقلا، وأدبا، وحكمة، وتدبيرا، حتى كان أسوة وقدوة للبشر كلهم من حيث هو آدم النبي والانسان، لا آدم التراب من حيث هو تراب، بل التراب الذي أصبح إنسانا كاملا بما لهذه الكلمة من معنى. واستمرت المسيرة نحو الكمال في الإنسانية، فكمل رجال أنبياء (ع) كثيرون، وكملت أيضا نساء، مثل آسية بنت مزاحم، ومريم، وخديجة (ع)، ثم بلغ الكمال أعلى الذرى في رسول الله صلى الله عليه وآله، الرجل، وفي الزهراء المرأة، ولم تستطع أهواء النفس وشهواتها، وكذلك الطموحات والغرائز وغير ذلك من مغريات وتحديات، بالإضافة إلى الضغوطات البيئية والاجتماعية وغيرها، ثم بغي وجبروت الطواغيت، لم يستطع ذلك كله أن يمنع الإنسان من أن يجسد إنسانيته، ويعيش حياة الإيمان، وحياة الكمال والسلام الشامل. وكانت أسوة بني البشر وقدوتهم هذه النماذج الماثلة أمامهم التي استطاعت أن تقنع الإنسان بأن عليه أن يتحدى، وأن يواجه، وأن يقتحم، وأن باستطاعته أن ينتصر أيضا، ومثله الأعلى هم الأنبياء والأولياء بدءا من آدم، وانتهاء برسول الله (ص) وأهل بيته الطاهرين، فهو لا يتلقى الفكرة فقط، بل هو يرى الحركة والموقف في الرسول والوصي، والولي.
ص 49
ولأجل ذلك فهو لم يقتصر على الأمر والزجر كما في قوله تعالى: *(وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)*(1)، بل تعداه ليقول: *(ولكم في رسول الله أسوة حسنة)*(2)، فهو يريه الحركة والموقف والصفاء والطهر متجسدا أمامه في النبي والوصي، وفي نسوة واجهتهن أعظم المحن والبلايا كامرأة فرعون، وفي الزهراء فاطمة (ع)، وحيث واجهتها أجواء الانحراف والشدة والظلم، وفي مريم بنت عمران التي واجهت ضغوط البيئة في أشد الأمور حساسية بالنسبة لجنس المرأة بصورة عامة. النشاط الاجتماعي للزهراء عليها السلام: قد يورد البعض ملاحظة ذات مغزى! تقول: إننا لا نجد في التاريخ ما يشير إلى نشاط اجتماعي للسيدة فاطمة الزهراء في داخل المجتمع الإسلامي إلا في رواية أو روايتين . وتعليقا على هذا نقول: كل زمان له متطلباته وتقنياته، وأطر نشاطه. وإنما يطالب كل من الرجل والمرأة ويحاسب وفقا لذلك، ويتم تقويم نشاطاته أيضا على هذا الأساس، من حيث حجم تأثيرها في الواقع الإسلامي كله. وبالنسبة لعصر النبوة، فإن تعليم الزهراء القرآن للنساء، وتثقيفهن بالحكم الشرعي، وبالمعارف الإلهية الضرورية. ثم مشاركتها الفاعلة والمؤثرة في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في المواقع المختلفة،
(هامش)
(1) سورة الحشر: 7. (2) سورة الأحزاب: 21. (*)
ص 50
حتى في المباهلة مع النصارى. ثم دورها الرائد في الدفاع عن القضايا المصيرية، ومنها قضية الإمامة. ثم خطبتها الرائعة في المسجد، التي تعتبر مدرسة ومعينا يرفد الأجيال بالمعرفة... هذا، عدا عن إسهامها المناسب لشخصيتها ولقدراتها، ولظروفها في حروب الإسلام المصيرية. وعدا عن طبيعة تعاملها مع الفئات المحتاجة إلى الرعاية كاليتيم، والأسير، والمسكين، وهو ما خلده الله سبحانه قرآنا يتلى إلى يوم القيامة. وأعظم من ذلك كله.. موقفها القوي والمؤثر، الذي وظفت فيه حتى فصول موتها ودفنها لصالح حفظ ثمرات الجهاد، في سبيل قضية الإسلام الكبرى، تماما فعلته ابنتها زينب (ع) في نطاق حفظها القوي والمؤثر لثمرات الجهاد والتضحيات الجسام للإمام الحسين عليه السلام وصحبه في كربلاء.. نعم، إن ذلك كله، ونظائره، يدل على أن الزهراء (عليها السلام)، قد شاركت في العمل الإنساني، والسياسي، والثقافي، والإيماني بما يتناسب مع واقع، وحاجات، وظروف عصرها. وفي نطاق أطر نشاطاته، وفقا للقيم السائدة فيه.. وقد حققت إنجازات أساسية على صعيد التأثير في حفظ الدعوة، وفي نشرها، وتأصيل مفاهيمها، وسد الثغرات في مختلف المجالات التي تسمح لها ظروف ذلك العصر بالتحرك فيها. وهنا الذي حققته قد لا يوازيه أي إنجاز لأية امرأة عبر التاريخ، مهما تعاظم نشاطها، وتشعبت مجالاته، وتنوعت مفرداته، لأنه استهدف تأصيل الجذور. فكان الأبعد أثرا في حفظ شجرة الإسلام، وفي منحها المزيد من الصلابة والتجذر، والقوة. وفي جعلها أكثر غنى
ص 51
بالثمر الجني، والرضي، والهني.. فيتضح مما تقدم: أن الاختلاف في مجالات النشاط وحالاته، وكيفياته بين عصر الزهراء عليها السلام وهذا العصر، لا يجعل الزهراء في دائرة التخلف والنقص والقصور. ولا يجعل إنجاز المرأة في هذا العصر أعظم أثرا، وأشد خطرا. حتى ولو اختلفت متطلبات الحياة، واتسعت وتنوعت آفاق النشاط والحركة فيها.. لأن من الطبيعي أن يكون عصر التأصيل لقواعد الدين. والتأسيس الصحيح لحقائق الإيمان، وقضايا الإنسان المصيرية هو الأهم، والأخطر، والانجاز فيه لا بد أن يكون أعظم وأكبر.. وهكذا يتضح: أنه لا معنى للحكم على الزهراء عليها السلام بقلة النشاط الاجتماعي في عصرها قياسا على مجالات النشاط للمرأة في هذا العصر.. وبعد ما تقدم فإننا نذكر القارئ الكريم بالأمور التالية: أولا: ليته ذكر لنا الرواية أو الروايتين لنعرف مقصوده من النشاط الاجتماعي. فإن كان المقصود به هو أنها قد تخلفت عن وظيفتها ولم تقم بواجبها كمعصومة وبنت نبي، وزوجة ولي. فقد كان على خصومها أن يعيبوها بذلك وكان على أبيها وزوجها أن يسددوها في هذا الأمر وإن كان المقصود بالنشاط في داخل المجتمع الإسلامي هو إنشاء المدارس، والمؤسسات الخيرية، أو تشكيل جمعيات ثقافية، أو خيرية، أو إقامة ندوات، واحتفالات، أو إلقاء محاضرات، وتأليف كتب تهدى أو تباع، فإن من الممكن أن لا تكون الزهراء (عليها السلام) قد قامت بالكثير من هذا النشاط كما يقوم به بعض النساء اليوم، ولا يختص ذلك بالزهراء عليها السلام، بل
ص 52
هو ينسحب على كل نساء ذلك العصر، والعصور التي تلته. فإن طبيعة حياة المجتمع وإمكاناته وكذلك طبيعة حياة المرأة آنذاك كانت تحد من النشاط الذي يمكنها أن تشارك فيه إلا في مجالات خاصة تختلف عن المجالات في هذه الأيام، بقطع النظر عن المبررات الشرعية التي ربما يتحدث عنها البعض بطريقة أو بأخرى. أما إذا كان المقصود هو أن التاريخ لم يذكر: أنها كانت تجهر بالحق، لمن أراد معرفة الحق، ولا تقوم بواجباتها في تعليم النساء وتوجيههن وفي صيانة الدين، وحياطته، على مستوى قضايا الإسلام الكبرى، وغيرها خصوصا ما أثير عنها من معارف نشرتها، حتى ولو في ضمن أعمالها العبادية وغيرها. فإن ما أنجزته في هذا المجال كالنار على المنار، وكالشمس في رابعة النهار. وإن خطبتها في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومع نساء الأنصار تعتبر بحد ذاتها مدرسة للأجيال، ومنبعا ثرا للمعرفة على مدى التاريخ لو أحسن فهمها، وصحت الاستفادة منها. هذا مع وجود أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وابن عمها أمير المؤمنين عليه السلام، اللذين هما محور الحركة الاجتماعية، والإنسانية والاسلامية وكان نشاطها (ع) جزءا من مجموع النشاط العام الذي كان آنئذ. على أن قوله إلا في رواية أو روايتين يبقى غير واضح وغير دقيق. فهناك العديد من الروايات التي ذكرت مشاركتها في أنشطة مختلفة، إجتماعية وسياسية وثقافية وتربوية، وقد ذكرنا بعضا من ذلك فيما سبق، بل إن بعض الروايات تذكر: أنها كانت تشارك حتى في مناسبات غير المسلمين. وذلك حينما دعاها بعض اليهود إلى
ص 53
حضور عرس لهم. وثمة رواية تحدثت عن ذلك الأعرابي الذي أعطته عقدها، وفراشا كان ينام عليه الحسن والحسين(ع)، فاشتراهما عمار بن ياسر... في قصة معروفة. بل إن الله سبحانه قد تحدث أنها وأهل بيتها (ع) من طبيعتهم إطعام الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا. وحين خطبت خطبتها في المسجد جاءت في لمة من النساء كانوا يؤيدونها في ما تطالب به، بل ويتحدث البعض عن وجود تكتل نسائي لها (ع) في مقابل تكتلات مناوئة. هذا كله عدا عن أن اهتمامها (بالجار قبل الدار) يعطينا صورة عن طبيعة اهتماماتها، وأنها لو وجدت أية فرصة لأي نشاط اجتماعي أو نشاط إنساني أو ثقافي فستبادر إليه بكل وعي ومسؤولية وحرص. وثانيا: إن تأكيدات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للمسلمين بصورة مستمرة قولا وعملا، على ما لها من مقام ودور، وموقع في الإسلام والإيمان، والمعرفة، قد جعل لها درجة من المرجعية للناس، وأصبح بيتها موئلا للداخلات والخارجات (1) وكان .. يغشاها نساء المدينة، وجيران بيتها (2) . وصار الناس يقصدونها لتطرفهم بما عندها من العلم والمعرفة (3).
(هامش)
(1) شرح نهج البلاغة للمعتزلي الشافعي: ج 9 ص 198. (2) المصدر السابق: ج 9 ص 193. (3) ستأتي حين الحديث عن مصحف فاطمة قصة مجئ أحدهم يطلب منها شيئا تطرفه به، فطلبت صحيفة كان رسول الله (ص) قد أعطاها إياها، فلم تجدها في بادئ الأمر. فانتظر. (*)
ص 54
وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه يوجه حتى بأصحاب الحاجات المادية إلى بيت فاطمة (عليها السلام)، كما في قضية الإعرابي الذي أعطته عقدها، وفراشا للحسنين كما أسلفنا. وكان الناس يترددون عليها لطلب المعرفة أيضا، وكل ذلك من شأنه أن يملأ حياتها عليها السلام بالحركة والنشاط، الذي يضاف إلى نشاطاتها البيتية، حيث كانت تطحن حتى مجلت يداها.. ثالثا: إنه لا يمكن تقييم إنسان ما على أساس إنجازاته ونشاطاته الاجتماعية، أو ذكائه السياسي، فهناك أذكياء سياسيون كثيرون، ولكنهم لا يتمتعون بالقيمة الحقيقة للإنسان، لأن النشاط الاجتماعي والذكاء لا يعطي الموقف السياسي أو غيره قيمة، وإنما تتقوم السياسة بمنطلقاتها ومبادئها، وهي إنما تؤخذ من المعصوم: كالنبي والوصي، ومن الزهراء أيضا. فهي عليها السلام تحدد لنا ما به تكون القيمة للسياسة، أو لأي عمل آخر، اجتماعيا كان أو غيره، ولا تكتسب الزهراء قيمتها من سياساتها، أو من نشاطاتها الاجتماعية، وإلا لكان بعض المجرمين أو المنحرفين أعظم قيمة حتى من الأنبياء، والأولياء، والأصفياء، إذا قام بنشاط اجتماعي أو سياسي كبير، بسبب توفر المال، أو الجاه، أو السلطة له، مع عدم توفر ذلك للنبي أو الولي عليهم السلام. والحقيقة: أن قيمة الإنسان إنما تنبع من داخل ذاته، ومن قيمه التي يجسدها، ومن مثله وإنسانيته، ومن علمه النافع المنتج للتقوى والخشية من الله سبحانه، وما سوى ذلك فهو في سياق الأسباب والنتائج، وقد يكون في الطرف الآخر من المعادلة. رابعا: إننا لا بد أن نتحقق أولا من حقيقة موقع الزهراء عليها
ص 55
السلام فيما يرتبط بإيمان الإنسان المسلم، ونتحقق أيضا من حقيقة المهام التي يفترض فيها أن تضطلع بها في تأييد هذا الدين وتشييده، فنقول: إن ولاء الإنسان المسلم للنبي والأئمة والزهراء (ع) له دور أساسي ومفصلي في بلورة إيمانه، وتحقيق هويته وشخصيته الرسالية والإنسانية، فوجود الزهراء - المرأة - التي ليست هي بإمام ولا نبي، بصفتها المرأة الكاملة في إنسانيتها هو الذي نحتاجه كضرورة حياتية، واعتقادية، وسلوكية، وحتى منهجية في حياتنا، أما نشاطها الاجتماعي أو السياسي، فليس له هذه الدرجة من الأهمية أو الحساسية مع وجود أبيها وزوجها. إننا نحتاج إلى هذا الوجود لنرتبط به، وتحنو عليه قلوبنا، وهو يجسد لنا القيم والمثل، والكمال الإنساني الذي نحتاج إليه هو الآخر، لتحتضنه قلوبنا من خلال احتضانها للزهراء (ع)، وليسهم - من ثم - في بناء عقيدتنا، وتركيز المفاهيم الإسلامية والقيم والمثل في قلوبنا وعقولنا، لتنتج ولتصوغ عواطفنا وأحاسيسنا وكل وجودنا، هذا هو دور فاطمة عليها السلام، وليس دورها ودورهم هو بناء المؤسسات، أو إنشاء الجمعيات الخيرية أو الإنسانية، أو ما إلى ذلك!!. خامسا: إنه لا شك في أن للزهراء عليها السلام الدور الكبير والحساس في بقاء هذا الدين ونقائه، ولولاها لطمست معالمه وعفيت آثاره، فالزهراء هي نافذة النور، وهي برهان الحق، وهي - كما هو زوجها. علي أمير المؤمنين (ع) - مرآة الإسلام التي تعكس تعاليمه، وأحكامه، ومفاهيمه، ونظرته للكون وللحياة. فهي مع الحق يدور معها كيفما دارت وتدور معه كيفما دار.
ص 56
إنها المعيار والميزان الذي يوزن به إيمان الناس، ودرجة استقامتهم على طريق الهدى والخير والخلوص والاخلاص. ونعرف به رضا الله ورسوله، وغضب الله ورسوله (ص). وهذا ما يشير إليه قول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: هي بضعة مني وهي قلبي الذي بين جنبي، من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله، أو يرضيني ما أرضاها ويسخطني ما أسخطها، أو نحو ذلك. والملاحظ: أنه (ص) قد جعل المرتكز لمقولة يرضيني ما يرضيها أو من آذاها فقد آذاني هو كونها بضعة منه (ص) (1).
(هامش)
(1) هذا الحديث لا ريب في تواتره وصحته. وصرح بتواتر نقله بين الفريقين الشيخ جعفر كاشف الغطاء في كتابه المعروف كشف الغطاء: ص 12 فراجعه. وبما أن هذا الحديث قد ذكر في مختلف المصادر التي تحدثت عن الزهراء، فإن استقصاء مصادره متعسر لنا الآن بل متعذر، ولا نرى حاجة إلى ذلك، ولذا فسوف نكتفي هنا بذكر ما تيسر منها. ومن أراد المزيد، فعليه بمراجعة الكتب التي تتحدث عن سيرة الزهراء (ع) أو عن كراماتها ومزاياها، فسيجد هذا الحديث أمامه أينما توجه. أما المصادر التي نريد الإشارة إليها فهي التالية: فرائد السمطين: ج 2 ص 46، ومجمع الزوائد: ج 9 ص 203، ومقتل الحسين للخوارزمي: ج 1 ص 52 و53، وكفاية الطالب: ص 364 و365، وذخائر العقبى: ص 37 و38 و39، وأسد الغابة: ج 5 ص 522، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وينابيع المودة: ص 173 و174، و179 و198، ونظم درر السمطين: ص 176، و177 ومستدرك الحاكم: ج 3 ص 154 و158 و159، وتلخيصه للذهبي مطبوع بهامشه، وكنز العمال: ج 13 ص 93 و96 وج 6، ص 219، وج 7 ص 111، والغدير: ج 7 ص 231 - 236، وسير أعلام النبلاء: ج 2 ص 132 والصواعق المحرقة: ص 186 و188 وشرح المواهب للزرقاني: ج 4 ص 335 وغير ذلك كثير. (*)
ص 57
ومن الواضح: أن كونها جزءا من كيانه الجسدي والمادي من حيث بنوتها النسبية له، ليس هو السبب في كون ما يرضيها يرضيه، وذلك لأمرين: الأول: إنه (ص) لا ينطلق في مواقفه من موقع العصبية للقرابة أو للعرق أو ما إلى ذلك، بل هو (ص) إنما يريد أن يكون كل ما لديه من خصوصيات، أو امتيازات، أو قدرات مادية أو معنوية في خدمة هذا الدين، ومن أجله، وفي سبيله. الثاني: إن البنوة النسبية أو بالتبني لا تكفي بحسب طبيعتها لاكتساب امتياز بهذا المستوى من الخطورة، وإن كانت لها أهميتها من حيث أنها تشير إلى صفاء العنصر، وطهارة العرق، لأنها (ع) كانت نورا في الأصلاب الشامخة، والأرحام المطهرة، ولكن من الواضح إن الحفاظ على هذا الطهر بحاجة إلى جهد، وحين لم يبذل ابن نوح (ع) - الذي تحدثت بعض الروايات عن أنه ابن له (ع) بالتبني لا بالولادة (1) - هذا الجهد هلك وضل، حتى قال الله عنه لأبيه نوح: *(إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح)*، ولذلك لم يكن رضا ابن نوح رضا الله ورسوله، ولا غضبه غضب الله ورسوله. فالمراد بكونها (بضعة منه) لا بد أن يكون معنى يصلح أن يكون مرتكزا لكون رضاها رضاه (ص)، وأذاها أذاه، خصوصا مع علمنا بأنه (ص) قد قال ذلك حينما أجابت عن سؤال: ما خير للمرأة؟ فقالت: أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال، كما سيأتي
(هامش)
(1) فلا موقع لما يقوله البعض من أن العاطفة الأبوية لنوح قد أثرت عليه فانساق معها حتى إنه لم يلتفت لخطاب الله له بهذا الشأن. راجع: البرهان في تفسير القرآن: ج 2 ص 220. (*)
ص 58
إن شاء الله تعالى. أو أنه (ص) قد قال ذلك لعلي (عليه السلام) بحضور أولئك الذين تسببوا في أذى فاطمة (عليها السلام)، حين أخبروها بأنه قد خطب بنت أبي جهل. فقال له علي (ع): والذي بعثك بالحق نبيا ما كان مني مما بلغها شيء، ولا حدثت بها نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: صدقت وصدقت. ففرحت فاطمة عليها السلام بذلك وتبسمت حتى رأى ثغرها. فقال أحد الرجلين لصاحبه: ما دعاه إلى ما دعانا في هذه الساعة الخ... (1) فالنبي إذن أراد أن يقول لمن أخبر فاطمة هذا الخبر الكاذب أنه آذاها وآذاه. ومهما يكن من أمر، فإن المراد بهذه الكلمة لا بد أن يكون معنى منسجما مع كون أذاها أذاه. وهو أن مزاياها من مزايا رسول الله (ص) وكمالها من كماله، فالحديث عنها بما هي جزء من كيان النبي (ص) ووجوده الإنساني والرسالي بكل ميزاته، ودقائقه، وخصوصياته التفصيلية، كإنسان إلهي كامل، يمثل الإنسانية والفطرة، والكمال والصفاء، والحق والصدق، بأجلى وأدق هذه المعاني وأسماها. وواضح أن فاطمة إنما تغضب إذا انتقصت الإنسانية، والقيم واعتدي عليها، وترضى إذا كرمت وتكاملت هذه الإنسانية والقيم وتجذرت، فالاعتداء عليها لا يغضبها من حيث هي شخص بل يغضبها من حيث أنه اعتداء على الإنسانية، وعلى الكمال الروحي والسمو المعنوي، ولكون ذلك محاولة للانتقاص، من هذا
ص 59
الوجود الكريم. إن العدوان عليها عدوان على الحق، وعلى الفطرة وعلى الإنسانية، وعلى الفضل، وذلك هو الذي يغضبها، ويغضب الله ورسوله، وكل عمل يأتي على وفق الفطرة، ويصون هذا الوجود، فهو الذي يرضيها ويرضي الرسول ويرضي الله. وبذلك تصلح أن تكون معيارا وميزانا حين ترضى، وحين تغضب. ولنا أن نقرب هذا المعنى بالإشارة إلى شاهد قرآني وهو قوله تعالى: *(من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)*(1). فإن الجسد الذي هو لحم وعظم لا يزال موجودا، والذي فقد هو إرادته، واختياره، وعقله، وخصائصه الإنسانية، من نبل وكرم، وعواطف، ومشاعر، و... إن الجسد قد أفرغ من محتواه بواسطة إزهاق روحه. الزهراء أم أبيها: ومن أغرب ما سمعناه مقولة أطلقها البعض مفادها: إن الزهراء عليها السلام قد عوضت النبي (ص) عن عطف الأم، حيث إن أمه ماتت، وهو لا يزال طفلا، فلأجل ذلك أطلق عليها لقب: أم أبيها. إنه يقول بالحرف الواحد: .. بدأ النبي حياته وهو يشكو فقد
(هامش)
(1) سورة المائدة: 32. (*)
ص 60
حنان الأم، لأن حنان الأم ليس شيئا يمكن أن تتكفله مرضعة أو مربية... إلى أن قال: ولذلك أعطته أمومتها باحتضانها له. وقالها رسول الله، وهو يشعر: أن ذلك الفراغ الذي فقده بفقدان أمه استطاع أن يملأه من خلال ابنته (1) . ونقول: إن هذا الكلام لا يمكن قبوله إذ لا يمكننا قبول مقولة: أن النبي (ص) كان يعاني من عقدة نقص، نشأت عن فقده أمه، فاحتاج إلى من يعوضه ما فقده.. بل معنى هذه الكلمة: أن الزهراء كانت تهتم بأبيها، كما تهتم الأم بولدها، وهذا لا يعني: أن ذلك سيعوض النبي عن عاطفة فقدها، أو سيكمل نقصا يعاني منه. وبعد، فهل يمكن أن يقبل هذا البعض أن غير الزهراء عليها الصلاة والسلام كان بإمكانها أن تملأ هذا الفراغ. لو حدبت على رسول الله (ص)، ومنحته قسطا من العاطفة التي هو بحاجة إليها؟! إن الكلمة المذكورة: أم أبيها تريد أن تبين لنا حقيقة وأبعاد تعامل السيدة الزهراء، مع أبيها، ولا تريد أن تتحدث عن ملء فراغات أو حل عقد نقص في الشخصية النبوية المقدسة، والعياذ بالله. العصمة جبرية في اجتناب المعاصي،؟!! 1 - يتحدث البعض: عن أن العصمة التي تجلت في الزهراء
(هامش)
(1) كتاب الندوة: ص 58. (*)
رد: الزهراء (ع) مقامها وعصمتها
ص 61
عليها السلام قد أنتجتها البيئة والمحيط الايماني الذي عاشت وترعرعت فيه، لأنها كانت بيئة الإيمان والطهر والفضيلة والصلاح. ومن الواضح: إن هذه المقولة فيما تستبطنه تستدعي سؤالا حساسا وجريئا، وهو: ماذا لو عاشت الزهراء في غير هذه البيئة، وفي محيط ملوث بالرذيلة والموبقات؟! وماذا لو عاش غير الزهراء في هذه البيئة بالذات؟ هل سوف تكون النتيجة هي ذاتها؟! وقد عاش البعض فعلا في هذه البيئة بالذات، فلماذا لم يكن الأمر كذلك؟ 2 - ومع كل ذلك نرى هذا البعض نفسه يتحدث عن تكوينية العصمة، الأمر الذي يستبطن مقولة الجبر الإلهي، التي ثبت بطلانها، ونفاها أهل البيت (ع)، بقولهم: لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين. ونقول: إن ذلك يثير أكثر من سؤال جرئ وحساس أيضا. وهو أنه لو كانت البيئة هي المؤثرة، فما معنى كون العصمة تكوينية؟! وممنوحة بالفيض الإلهي المباشر، وبلا وساطة شيء، من محيط أو غيره؟! ثم هناك سؤال آخر عن: السبب في تخصيص هؤلاء بهذه العصمة الاجبارية التكوينية؟ ولماذا لم ينلها غيرهم معهم من سائر بني الإنسان؟!!
ص 62
ولماذا نحن نتعب ونشقى، ونحصل على القليل، وتكون لهم هم الدرجات العالية، مع أنهم لم يتعبوا ولم يجاهدوا أنفسهم مثلنا؟! وسؤال آخر، وهو: ألا يكون الشخص الذي يقوم بالامتناع - من تلقاء نفسه - عن سيئة واحدة، أو المبادرة إلى عمل حسنة واحدة في حياته، يجاهد بها نفسه وغرائزه، أفضل من جميع النبيين والأوصياء المعصومين بالتكوين والاجبار؟! يضاف إلى ذلك سؤال آخر وهو: ألا يعني ذلك أن لا يستحق المعصوم مدحا ولا أجرا على عباداته، ولا على أي شيء من طاعاته للأوامر والزواجر الإلهية؟! (1). إلى غير ذلك من علامات استفهام لا يمكن استيفاؤها عرضا وردا في هذا البحث المقتضب. 3 - ولعله من أجل دفع غائلة هذا السؤال الأخير، عاد هذا البعض ليقول: إن العصمة التكوينية إنما هي في الاجتناب عن المعاصي، حيث لا يقدر المعصوم على اقترافها. أما الطاعات فالاختيار فيها باق له على حاله، وليس ثمة جبر إلهي عليها.. وهذه نفس مقولة الأشاعرة الذين فسروا العصمة بأنها القدرة على الطاعة، وعدم القدرة على المعصية (2). ونقول: إننا لا نريد أن نناقش هذا التفصيل (بين الطاعات وبين
(هامش)
(1) هذا السؤال قد سأله علماؤنا رضوان الله تعالى عليهم لأولئك القائلين بعدم قدرة المعصوم على المعصية. راجع اللوامع الإلهية: ص 169. (2) راجع اللوامع الإلهية: ص 169. (*)
ص 63
المعاصي)!! بإسهاب، بل نكتفي بالإلماح إلى ما يلي: أولا: إن ترك الطاعات أيضا معصية، فهو إذن لا يقدر على هذا الترك تكوينا فكيف يكون مختارا في فعلها، وما معنى كونه مختارا في خصوص الطاعات؟!. ثانيا: إن هذا التفصيل لا دليل عليه، ولا توجيه له بل هو تحكم محض فلماذا لا تكون القضية معكوسة، فيكون مختارا في ترك المعاصي مكرها على فعل الطاعات.. والملفت للنظر هنا: أنه حين واجهته هذه الأسئلة التجأ تارة إلى مقولة البلخي بأن الثواب على الطاعة إنما هو بالتفضل، لا باستحقاق العبد. وتارة أخرى إلى ما يتحدث عنه البعض بزعمه من أن الاستحقاق بالتفضل وهي مقالة كمقالة البلخي لا يلتفت إليها لقيام الدليل على أن الطاعة بالاستحقاق لا بالتفضل. وهذا الدليل هو: أن الطاعة مشقة ألزم الله العبد بها، فإن لم يكن لغرض كان ظلما وعبثا، وهو قبيح لا يصدر من الحكيم. وإن كان لغرض، فإن كان عائدا إليه تعالى فهو باطل لغناه وإن كان عائدا إلى المكلف، فإن كان هذا الغرض هو الإضرار به كان ظلما قبيحا، وإن كان هو النفع له فإن كان يصح أن يبتدئ الله به العبد، فيكون التكليف حينئذ عبثا، وإن كان لا يصح الابتداء به بل يحتاج إلى تكليف ليستحق أن يحصل على ذلك النفع فهو المطلوب. فالنتيجة إذن هي: أن الثواب بالاستحقاق لا بالتفضل. وأما قول البلخي فهو باطل من الأساس، لأنه يستند فيما ذهب إليه إلى أن التكاليف إنما وجبت شكرا للنعمة، فلا يستحق بسببها
ص 64
مثوبة، فالثواب تفضل منه تعالى. ولا شك في عدم صحة هذا القول، إذ أن الكلام إنما هو في مرحلة الحسن والقبح، ويقبح عند العقلاء أن ينعم شخص على غيره، ثم يكلفه ويوجب عليه شكرها من دون إيصال ثواب على هذا التكليف، فإنهم يعدون ذلك نقصا، وينسبونه إلى حب الجاه والرياسة ونحو ذلك من المعاني القبيحة التي لا تصدر من الحكيم، فوجب القول باستحقاق الثواب. غاية ما هناك أنه يمكن أن يقال، وإن كان ذلك لا يلائم كلام البلخي أيضا بل هو أيضا ينقضه ويدفعه: أنه وإن كانت مالكية الله سبحانه لكل شيء تجعله، متفضلا في تقرير أصل المثوبة لمملوكيه على أفعالهم، ولكنه بعد أن قرر لهم ذلك بعنوان الجزاء، وتفضل عليهم في زيادة مقاديره، حتى لقد جعل الحسنة بعشرة أمثالها، أو بسبع مئة ضعف، والله يضاعف لمن يشاء وبعد أن دخل ذلك في دائرة القرار، وأصبح قانونا إلهيا مجعولا، فقد دخل في دائرة الاستحقاق بعد أن لم يكن. ولأجل ذلك لم يجز في حكم العقل أن يعطي الله العاصي، ويمنع المطيع، ولو كانت المثوبة من باب التفضل لجاز ذلك، وهذا نظير ما لو قرر رجل أن يجعل لولده جائزة على نجاحه في الامتحان في مدرسته، فإذا نجح الولد، فسيطالب أباه بالجائزة، ويرى أنه مظلوم ومهان لو لم يعطه إياها، فضلا عن أن يعطيها لأخيه الراسب.
ص 65
هل للمحيط والبيئة تأثير في العصمة: وأما بالنسبة لما قيل عن تأثير البيئة والمحيط الايماني في شخصية الزهراء عليها السلام: فإننا نقول فيه: إن الزهراء النور التي خلقت من ثمر الجنة، وكانت تحدث أمها وهي في بطنها، قبل أن تولد. هي خيرة الله سبحانه، قد اصطفاها لتكون المعصومة (1) الطاهرة، والصفوة الزاكية، قبل دخولها في هذه البيئة التي يتحدث البعض عنها على أنها هي السبب الرئيسي في ما للزهراء من مقامات وكرامات. وحديثه هذا يستبطن: أن الزهراء نفسها عليه السلام لو عاشت في بيئة أخرى ليست بيئة صلاح وخير وإيمان، فلسوف تطبعها بطابعها الخاص، فتكون المرأة الشريرة والمنحرفة، والعياذ بالله!! فهل هذا مقبول أو معقول؟!.. إننا نصر على أن المحيط الذي عاشت فيه الزهراء عليها السلام،
(هامش)
(1) العصمة في الأنبياء والأوصياء ثابتة بدليل العقل، لاقتضاء مقام النبوة والإمامة لها. ويؤيدها النقل، وقد يتعرض النقل أيضا لبيان حدودها وآفاقها، وغير ذلك من خصوصيات.. أما عصمة الزهراء عليها السلام، فهي ثابتة بالنقل الصحيح الثابت عن الرسول (ص)، وبنص القرآن الكريم، وهي من ضروريات المذهب وثوابته. وبديهي أن لا تعرف العصمة إلا بالنقل، لأن الأوامر والزواجر الإلهية لا تنحصر بأعمال الجوارح الظاهرية، بل تتعداها إلى القلب والنفس والروح، وإلى صياغة مواصفات الإنسان، ومشاعره وأحاسيسه، مثل الشجاعة والكرم والحسد، والحب والبغض، والإيمان والنفاق، والنوايا وغير ذلك مما لا سبيل لنا للاطلاع عليه بغير النقل عن المعصوم. (*)
ص 66
لم يكن هو محض السبب في وصول الزهراء إلى مقام الكرامة والزلفى، ولا كان هو الذي صاغ وبلور شخصيتها الايمانية، وحقق عصمتها، وكمالها الإنساني، بل إن فطرتها السليمة، وروحها الصافية، وعقلها الراجح، وتوازنها في خصائصها وكمالاتها الإنسانية، ثم رعاية الله سبحانه لها، ومزيد لطفه بها، وتسديده وتوفيقه، وسعيها باختيارها إلى الحصول على المزيد من الخلوص والصفاء، والطهر، والوصول إلى درجات القرب والرضا، إن ذلك كله هو الذي أنتج شخصية الزهراء المعصومة والمطهرة. فالعصمة لا تعني العجز عن فعل شيء، وإنما تعني القدرة والمعرفة، والاختيار الصالح، والإرادة القوية الفاعلة مع العقل الكبير، واللطف والرعاية والتسديد الإلهي. أما كبر السن أو صغره، أو مقدار النمو الجسدي، فليس هو المعيار في صفاء الروح، أو كمال الملكات، والخصال الإنسانية، ولا في فعلية التعقل، أو قوة العقل والإدراك، ولا في سعة المعرفة، واستحقاق منازل الكرامة، فقد آتى الله يحيى عليه السلام الحكم صبيا، كما أن عيسى عليه السلام قد تكلم في المهد: *(قال إني عبد الله آتاني الكتاب، وجعلني نبيا، وجعلني مباركا أينما كنت، وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا، وبرا بوالدتي، ولم يجعلني جبارا شقيا)*(1). ولم تكن الزهراء (عليها السلام) في أي وقت من الأوقات بعقلية طفل، ولا بمستوى ملكات وإدراكات وطموحات وليد. وقد تكلم علي، والزهراء عليهما السلام حين ولادتهما، وحدثت الزهراء أمها قبل أن تولد.
(هامش)
(1) سورة مريم: 20 / 22. (*)
ص 67
وقد ذكرت لنا الروايات وكتب التاريخ وغيرها من مصادر الفريقين كثيرا من هذا وأمثاله مما يتعلق بأهل البيت عليهم السلام. مما يدل على هذه الحقيقة فيهم وفيما صلوات الله وسلامه عليهم وعليها، وعلى شيعتها ومحبيها إلى يوم الدين. إمكانية التمرد على البيئة والمحيط: أما فيما يرتبط بالمحيط والبيئة، فلسنا ننكر ما له من تأثير على روح الإنسان وسلوكه وأخلاقياته ونفسيته. ولكننا نقول: إن ذلك ليس مطردا في جميع الناس، ولا هو حتمي الحصول، إلى درجة أن يفقد الإنسان معه إرادته، ويأسره، ويمنعه من الاختيار ويقيده عن الحركة باتجاه الخير، والصلاح، والنجاح والفلاح. وقد أوضح القرآن الكريم لنا ذلك بما لا يدع مجالا للشك حينما تحدث عن نساء جعلهن مثلا يحتذى كمريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم ثم تحدث عن أخريات مثلا للعبرة والحذر كامرأة نوح ولوط. فقد قال سبحانه وهو يتحدث عن إحدى زوجات النبي (ص)، كان النبي (ص) قد أسر إليها حديثا هاما جدا فأفشته وزادت فيه: *(ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح، وامرأة لوط، كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين، فخانتاهما، فلم يغنيا عنهما من الله شيئا، وقيل ادخلا النار مع الداخلين. وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة
ص 68
فرعون، إذ قالت: رب ابن لي عندك بيتا في الجنة، ونجني من فرعون وعمله، ونجني من القوم الظالمين. ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها، فنفخنا فيه من روحنا، وصدقت بكلمات ربها، وكتبه، وكانت من القانتين)*(1). فنجده سبحانه قد ضرب مثلا للذين آمنوا - وليس لخصوص النساء المؤمنات - بآسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران. وضرب مثلا للذين كفروا - وليس لخصوص النساء الكافرات. بزوجتي نوح ولوط - ولتوضيح ذلك نقول: ألف: زوجتا النبي نوح والنبي لوط (ع): إن الذي يساعد على وضوح ما نريد بيانه في معنى الآيات، هو ملاحظة الأمور التالية: 1 - أشار في الآية إلى وقوف امرأة في مقابل رجل، ولعل البعض يرى للرجال على النساء تميزا في جهات معينة، تعطي للرجل الأفضلية والأولوية في أمور كثيرة. 2 - إن هذين الرجلين هما في موقع الزوجية، وللزوج موقعه القوي في داخل بيت الزوجية على الأقل. 3 - ومع صرف النظر عما تقدم، فإن الزوج عادة هو أعرف الناس حتى من الأم والأب، بأحوال زوجته، وبطبائعها، وبنقاط ضعفها وقوتها، لأنه على احتكاك عملي مستمر معها، وهي تعيش معه
(هامش)
(1) سورة التحريم: 10 / 12. (*)
ص 69
- عادة - الوضوح بأقصى حالاته وأرفع درجاته. 4 - وهذا الرجل يملك من صفات الكمال الإنساني كل أسباب القوة خصوصا في وعيه، وتدبيره، وعقله وحكمته، ومن حيث مستواه الفكري، وسلامة هذا الفكر، ومن حيث قدراته الاقناعية، فضلا عما سوى ذلك، بل هو القمة في ذلك كله، حتى استحق أن يكون نبيا، بل رسولا، بل إن أحدهما وهو نوح، من أولي العزم الذين يملكون أعلى درجات الثبات والحصانة والقوة. وهل هناك أعرف من النبي الرسول بأساليب الاقناع ووسائله وأدواته؟ أم هناك أكثر منه استجماعا للمفردات الفكرية وغيرها مما يحتاج إليه في ذلك؟!. 5 - كما أن هذه المرأة تعيش في محيط هدى، وفي أجواء الطهر، والصفاء، والاستقامة، والفضيلة، والإيمان، والخير، والصلاح، حيث يتجسد ذلك كله واقعا تتلمسه بصورة مباشرة، وليس مجرد نظريات. أما الانحراف والسوء والشرك فلن يكون في هذا المحيط إلا غريبا، مرفوضا، ومنبوذا، لا يجد حرية الحركة، ولن ينعم بالقبول والرضا أبدا. 6 - إن هذين الرجلين النبيين، وأحدهما من أولي العزم، يتحملان مسؤولية هداية الأمة، والذب عنها، وإبعادها عن مزالق الانحراف وآفاته. بل إن هذه الهداية هي مسؤوليتهما الأولى والأساس، وهي كل شيء في حياتهما الرسالية الهادية. وليست أمرا عارضا، كالمال
ص 70
الذي يمكن تعويضه، أو الجاه الذي يمكن العيش بدونه، ولا هي من قبيل السلطة، والنفوذ، وإدارة البيت ولا هي مصلحة مادية، ولا أي شأن من شؤون الحياة، مما يمكن التغاضي عنه. بل المساس بها مساس بالمصير، وبالوجود، وبالمستقبل، وبالآخرة والدنيا. إنه ينظر إلى هذه المهمة ويتعامل معها من موقع التقديس، ومن موقع التعبد والتدين. وتتحداه زوجته التي لا تدانيه في شيء مما ذكرناه، وتتمرد عليه في صميم مسؤوليته، وفي أعز وأغلى وأقدس شيء لديه. 7 - وهذا التحدي هو للمحيط وللبيئة، لأنه ينبع من داخل بيئة الصلاح، والإيمان والخير، والهدى. 8 - ويزيد في الألم والمرارة، أنها تتحداه في شيء يندفع إليه بفطرته، ويرتبط به بقلبه ووجدانه، وبأحاسيسه، وبعمق مشاعره، وبهيمنات روحه، وبكل وجوده. والأكثر مرارة في هذا الأمر، أنها تريد أن تكون النقيض الذي لا يقتصر على مجرد الانحراف، بل هي تعمل على تقويض وهدم ما يبنيه، مستفيدة من المحيط المنحرف الذي قد يعينها على تحقيق ما تعمل من أجله، ويعطيها نفحة قوة، وفضل عزيمة. ومن جهة أخرى: فإن هذا الأمر لا يختص بمورد واحد يمكن اعتباره حالة عفوية أو استثناء أو حالة شاذة، فقد تكررت القضية ذاتها وشملت نوحا ولوطا عليهما السلام اللذين ضرب الله المثل بما جرى لهما.
ص 71
ب: زوجة فرعون: وفي الجهة المقابلة تقف المرأة المجاهدة الصابرة آسية بنت مزاحم الشهيدة. ونوضح ما نرمي إليه في حديثنا عنها فيما يلي من نقاط: 1 - إن آسية بنت مزاحم امرأة في مقابل رجل، هو فرعون بالذات. 2 - وفرعون هذا هو الزوج المهيمن والقوي، وهو يتعامل مع هذه المرأة الصالحة من موقع الزوجية. 3 - وفرعون الرجل والزوج، لا يملك شيئا من المثل والقيم الإنسانية والرسالية، ولا يردعه رادع عن فعل أي شيء، وفي أي موقع من مواقع حياته، فهو يسترسل مع شهواته، وطموحاته، ومصالحه، بلا حدود ولا قيود، ودونما وازع أو رادع. أما آسية فعلى النقيض من ذلك، ترى نفسها محكومة لضوابط الدين والقيم والمثل، وهي تهيمن على كل وجودها فلا تستطيع أن تسترسل في حركتها، ولا يمكنها أن تتوسل بكل ما يحلو لها. 4 - وفرعون يمثل أقصى حالات الاستكبار في عمق وجوده، وذاته، حتى ليدعي الربوبية، ويقول للناس: أنا ربكم الأعلى ، فلا يرى أن أحدا قادر على أن يخضعه، أو أن يملي عليه رأيه وإرادته، بل تراه يحمل في داخله الدوافع القوية لسحق كل من يعترض سبيل أهوائه وطموحاته. فرعون هذا تتحداه امرأته!! في صميم كبريائه، وفي رمز استكباره وعلوه، وعنفوانه، وعمق طموحاته، في ادعائه الربوبية، وفي
ص 72
كل ما يرتكبه من موبقات، وما يمثله من انحراف. 5 - وفرعون ملك لديه الجاه العريض، وغرور السلطان، وعنجهيته، وجاذبيته، وعنفوانه، وزهوه. وما أحب تلك المظاهر الخادعة إلى قلب المرأة، وما أولعها بها. وإذا كانت المرأة تميل إلى الزهو، فإنها إلى زهو الملك العريض أميل، وإذا كان الجاه العريض يستثيرها، فهل ثمة جاه كجاه السلطان، فكيف وهو يدعي الربوبية لنفسه؟! 6 - أما المغريات فهي بكل صنوفها، وفي أعلى درجات الإغراء فيها، متوفرة لفرعون، فلديه الدور والقصور، والبساتين، والحدائق الغناء، ولديه اللذائذ والأموال، والخدم والحشم، ولديه الزبارج والبهارج وزينة الحياة الدنيا. وهل ثمة أحب إلى قلب المرأة من القصر الشاهق، ومن الأثاث الفاخر، واللائق، ومن وصائف كالحور، وغير ذلك من بواعث البهجة والسرور؟! 7 - وعند فرعون الرجال والسلاح، وكل قوى القهر، والتسلط، والجبروت، والهيمنة، ولذلك أثره في بث الرهبة، والرعب في قلب كل من تحدثه نفسه بالتمرد، والخلاف. 8 - وعند فرعون أيضا المتزلفون، والطامعون، والطامحون، الذين هم وسائله وأدواته الطيعة، التي تحقق رغباته، وتلبي طلباته، مهما كانت، وفي أي اتجاه تحركت. 9 - وهناك الواقع المنحرف الذي تهيمن عليه المفاهيم الجاهلية. والجهل الذريع، والافتتان الطاغي بالحياة الدنيا، هذا الواقع الذي تفوح
ص 73
منه الروائح الكريهة للشهوات البهيمية، وتنبعث فيه الأهواء، وتضج فيه الجرائم. 10 - وفي محيط فرعون، تريد امرأة فرعون أن تتخلى عن لذات محسوسة وحاضرة من أجل لذة غائبة عنها، مع أن الإنسان كثيرا ما يرتبط بما يحس ويشعر به، أكثر ما يرتبط بما يتخيله أو يسمع به، بل هو يستصعب الانتقال من لذة محسوسة إلى لذة أخرى مماثلة لها، فكيف يؤثر الانتقال إلى ما هو غائب عنه، ولا يعيشه إلا في نطاق التصور والأمل بحصوله في المستقبل، ثقة بالوعد الإلهي له. بل إنها عليها السلام تريد أن تستبدل لذة وسعادة ونعيما حاضرا بألم وشقاء، وبلاء، بل بموت محتم لقاء لذة موعودة. 11 - وبعد ذلك كله، إن هذه المرأة لا تواجه رجلا كسائر الرجال، بل تواجه رجلا عرف بالحنكة، والدهاء، والذكاء. فكما كان عليها أن تواجه استكباره، وسلطانه، وبغيه، وكل إرهابه، وإغراءه، فقد كان عليها أيضا أن تواجه مكره، وأحابيله، وتزويره، وأساليبه الذكية الخداعة، وهو الذي استخف قومه فأطاعوه. وقد ظهرت بعض فصول هذا الكيد والمكر في الحوار الذي سجله الله سبحانه له مع موسى، ومع السحرة الذين جاء بهم هو، فآمنوا بإله موسى (1).
(هامش)
(1) إن حنكة فرعون كانت عالية إلى درجة أنه - كما قال القرآن الكريم - استخف قومه فأطاعوه، أي أنه قد تسبب في التأثير على مستوى تفكيرهم، وخفف من مستوى وعيهم للأمور.. كما أننا حين نقرأ ما جرى بينه وبين موسى والسحرة، نجده أيضا في غاية الفطنة والدهاء، فقد قال تعالى: (*)
ص 74
... *(.. قال فرعون: وما رب العالمين؟! قال: رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين. قال لمن حوله: ألا تستمعون؟! قال ربكم، ورب آبائكم الأولين. قال: إن رسولكم الذي أرسل إليهم لمجنون)*. سورة الشعراء، الآيات 23 - 27. فيلاحظ: إنه حاول في بادئ الأمر أنه يسفه ما جاء به موسى بطريقة إظهار التعجب والاستهجان. فلما رأى إصرار موسى على مواصلة الاعلان بما جاء به لجأ إلى اتهامه بالجنون. ولكنه أيضا وجد أن موسى يواصل بعزم ثابت، وإصرار أكيد، إعلانه المخيف لفرعون فالتجأ إلى استعمال أسلوب القهر والقمع، فقال لموسى: *(قال: لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين)*. فواجهه موسى (ع) بإبطال كيده هذا، وجرده من هذا السلاح، حيث قال له: *(أولو جئتك بسلطان مبين)* فاضطره أمام الناس إلى الرضوخ لذلك فقال: *(فأت به إن كنت من الصادقين)* فأظهر موسى المعجزة التي جردته من سلاح المنطق والحجة. ولكنه مع ذلك لم يستسلم بل التجأ إلى سلاح آخر، يدلل على حنكته البالغة ودهائه العظيم وعلى درجة عالية من الذكاء، حيث نقل المعركة فورا من ساحته هذه إلى ساحة الآخرين، وأخرج نفسه عن دائرتها، وجعل من نفسه إنسانا غيورا على مصلحة الناس، يريد أن يدفع الشر عنهم، وأن يحفظ لهم مواقعهم فأظهر أن ما جاء به موسى (ع) لا يعنيه هو ولا يهدد موقعه، وإنما هو يستهدفهم دونه فالقضية إذن هي قضيتهم، فلا بد أن يبادر كل منهم لمواجهتها، وليست هي قضية يمكن التفريط في شأنها، ولا هي تسمح لهم باللامبالاة، أو التأجيل، أو التواكل، مستفيدا من طبيعة المعجزة عنصر التمويه عليهم والتشويه للحقيقة، حيث اعتبر إن انقلاب العصا إلى ثعبان وخروج اليد بيضاء، سحرا يريد موسى أن يتوسل به إلى إخراجهم من أرضهم، فهو قد حول المعجزة القاهرة إلى دليل له، يبطل به دعوى موسى التي جاءت المعجزة لإثباتها وتأكيدها، ثم ألقى الكرة في ملعبهم، وجعل القرار لهم. واستطاع من خلال ذلك أن يقتنص فرصة جديدة يستدرك بها شيئا من القوة لمواجهة موسى.. وهذا هو ما أوضحته الآيات التالية: (*)
ص 75 خلاصة:
كانت تلك بعض لمحات الواقع الذي واجهته امرأة فرعون، التي هي من جنس البشر، ومن لحم ودم، لها ميولها، وغرائزها، وطموحاتها، ومشاعرها، وأحاسيسها. وقد واجهت رحمها الله كل هذا الواقع الصعب بصبر وثبات، ولم تكن تملك إلا نفسها، وقوى إرادتها، وقويم وعيها، الذي جعلها تدرك: أن ما يجري حولها هو خطأ، وجريمة، وانحراف وخزي،
(هامش)
*(قال: فأت به إن كنت من الصادقين. فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين. ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين. قال للملأ حوله: إن هذا لساحر عليم، يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره، فماذا تأمرون. قالوا: أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين)* سورة الشعراء: 28 و36 وراجع سورة طه: 47 / 57. فكل ذلك يشير إلى أن فرعون لم يكن رجلا عاديا، بل كان على درجة عالية من الذكاء والمكر والدهاء، وأنه في حين كان قد استخدم كل قدراته من مال وجاه وجيوش، وقمع وقهر، في سبيل الوصول إلى مبتغاه، فإنه أيضا قد استخدم ذكاءه وأساليبه المماكرة في سبيل ذلك، حتى *(استخف قومه فأطاعوه)* سورة الزخرف: 54. ولننظر بدقة إلى قوله تعالى *(وقال فرعون: ذروني أقتل موسى وليدع ربه، إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد)* سورة غافر: 26. ولنتأمل في موقف فرعون من السحرة، وطريقة مواجهته للصدمة التي نتجت عن إيمانهم بما جاء به موسى، فإنه هو الآخر، دليل آخر يضاف إلى ما تقدم على حنكته وذكائه، وطبيعة أساليبه الماكرة والفاجرة. ولسنا هنا بصدد التوسع في هذا الموضوع، ولم نرد إلا التنويه والإشارة لندلل من خلال ذلك على عظمة الانجاز، وقيمة النصر الذي حققه نبي الله موسى (ع) على هذه الطاغية المستكبر والماكر. (*)
ص 76
فرفضت ذلك كله من موقع البصيرة والإيمان، وواجهت كل وسائل الإغراء والقهر، ولم تبال بحشود فرعون، ولا بأمواله، ولا بجاهه العريض، ولا بزينته ومغرياته، ولا بمكره وحيله وحبائله.. وطلبت من الله سبحانه وتعالى أن يهيئ لها سبل النجاة من فرعونية فرعون، ومن أعمال فرعون، ومن محيط القوم الظالمين. ولم يؤثر شيء من ذلك كله، من البيئة والمحيط وغير ذلك، في زعزعة ثقتها بدينها وربها، أو في سلب إرادتها، أو في سلامة وصحة خيارها واختيارها. وكان دعائها: رب ابن لي عندك بيتا في الجنة، ونجني من فرعون وعمله، ونجني من القوم الظالمين . فهي تعتبر الابتعاد عن فرعون، وعن ممارسات فرعون نجاة، وتعتبر الابتعاد عن دنس الإنحراف والخروج من البيئة الظالمة نجاة أيضا.. وهي لا تريد من الله قصورا ولا زينة، ولا ذهبا ولا جاها، بل تريد أن تفوز بنعمة القرب منه تعالى. (عندك)، وبمقام الرضا، على قاعدة: (رضا الله رضانا أهل البيت). ج: مريم (ع) في مواجهة التحدي: أما التحدي في قضية مريم عليها السلام فهو الآخر قاس ومرير، إنه تخد في أمر يمس شخصيتها وكيانها، وهو من أكثر الأمور حساسية بالنسبة إليها كأنثى، تعتبر نفسها أمام قومها رائدة الطهر والفضيلة، وتنعى عليهم رجسهم وانحرافهم، إنه التحدي في أمر العفة والطهر،
ص 77
وقد جاء بطريقة تفقد معها كل وسائل الدفاع عن نفسها، إذ كيف يمكن لامرأة أن تأتي قومها بمولود لها، ثم تزعم لهم أنها لم تقارف إثما، ولا علاقة لها برجل. إنها تزعم: أنها قد حملت بطفل ولم يمسسها بشر، وتصر على أنها تحتفظ بمعنى العفة والطهارة بالمعنى الدقيق للكلمة، بل هي لا تقبل أي تأويل في هذا المجال، ولو كان من قبيل حالات العنف التي تعذر فيها المرأة. بل وحتى المرأة، المتزوجة حين تلد فإنها في الأيام الأولى تكون خجلى إلى درجة كبيرة، لا سيما أمام من عرفوها وعرفتهم وألفوها وألفتهم. فكيف إذا كانت تأتي قومها بطفل تحمله، وقد ولدته ولم تكن قد تزوجت، ثم هي تصر على أنها لم يمسسها بشر!! أو لا ترضى منهم أن يعتقدوا أو حتى أن يتوهموا غير ذلك. ولم يهتز إيمان مريم، ولم تتراجع، ولم تبادر إلى إخفاء هذا الطفل، ولا إلى إبعاده ولا إلى التبرء منه، بل قبلت، ورضيت، وصبرت، وتحملت في سبيل رضا الله سبحانه، فكانت سيدة نساء زمانها بحق، وبجدارة فائقة، لأنها صدقت بكلمات الله، وكانت من القانتين. أما الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها، فقد أخبر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنها أفضل من جميع نساء العالمين من الأولين والآخرين بمن فيهم مريم وآسية وسواهما، رغم كل ما قاسوه وما واجهوه مما ينبؤك عن عظيم مكانتها
ص 78
وبلائها لقوله (ع): إن أشد الناس بلاء هم الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الأمثل فالأمثل (1). من نتائج ما تقدم: ونستخلص مما تقدم نتائج كثيرة، نذكر منها هنا ما يلي: 1 - قد ظهر مما تقدم من خلال عرض ما ضربه الله مثلا: أن البيئة والمحيط ليس هو الذي يصنع شخصية الإنسان، وإن كان ربما يؤثر فيها أحيانا، إذا فقدت الرقابة الواعية، حيث يستسلم الإنسان للخضوع والخنوع. فلا مجال إذن لقول هذا البعض: إن شخصية الزهراء عليها السلام، هي من نتاج المحيط والبيئة التي عاشتها، ولن نقبل أن يقال: إنها عليها السلام لو عاشت في محيط آخر - فاسد مثلا - لكانت قد عاشت واقع محيطها الفاسد أيضا. 2 - إن مواجهة مريم لضغوطات محيط الانحراف، في أشد الأمور حساسية وأهمية بالنسبة إليها، وهي لا تملك أي وسيلة مألوفة للدفاع عن نفسها، سوى هذا الإيمان الصافي، والثقة الكبيرة بالله تعالى. ثم تحرك آسية بنت مزاحم في عمق وكر الانحراف والشرك، وفي صميم محيطه، وبيئته، لمواجهة أعتى القوى، وأكثرها استجماعا لوسائل القهر، والاغراء، والتحدي، وأشدها بغيا، وظلما، واستكبارا..
(هامش)
(1) راجع البحار: ج 64 ص 200. (*)
ص 79
إن هذا وذاك يدل على أنه لا مجال لتبرير الانحراف بضغوطات المحيط، والبيئة، أو السلطة، أو الخضوع لإرادة الزوج، وما إلى ذلك. 3 - قد ظهر مما تقدم: أن للمرأة كما للرجل، قوة حقيقية، وقدرة على التحكم بالقرار النهائي في أية قضية ترتبط بها، وأنها في مستوى الخطاب الإلهي، وتستطيع أن تصل إلى أرقى الدرجات التي تؤهلها لأسمى المقامات، في نطاق الكرامة والرعاية الإلهية. 4 - إن الاندفاع نحو إحقاق الحق، وإقامة شرائع الله، والعمل بأحكامه، والتزام طريق الهدى والخير أمر موافق للفطرة والعقل دون ريب، وإن الانحراف عن ذلك ما هو إلا تخلف عن مقتضيات الفطرة، واستخفاف بأحكام العقل، وتفريط بمعاني الإنسانية والسداد والرشاد.
ص 80
...
ص 81
رد: الزهراء (ع) مقامها وعصمتها
بارك الله بيج وردة
ع الموضوع الراائع
تحياتي
رد: الزهراء (ع) مقامها وعصمتها
بارك لله بيج
عيوني
شكرا ع موضوع الروعه
تحياتي
رد: الزهراء (ع) مقامها وعصمتها
نورتوا الموضوع
حبايب
شكرا لتواجدكم الكريم
تحياتي الكم
رد: الزهراء (ع) مقامها وعصمتها
عاشت ايدج مبدعه دومج تقبلي مروري تحياتي الج
رد: الزهراء (ع) مقامها وعصمتها
نورتي الموضوع ياورده
شكرا لتواجدك الكريم
تقديري لكِ
رد: الزهراء (ع) مقامها وعصمتها
مشكوره عراقيه وحق ربج مشتاقلج ومانسيناج
رد: الزهراء (ع) مقامها وعصمتها
رد: الزهراء (ع) مقامها وعصمتها
شكرررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررررر ا