تابع
أبو عدي وعائلته الكريمة وخاله وأبو زوجته خير الله طلفاح ، وإنتهاءً بخراتيت الطائفية البغيضة الذين نهبونا حلالاً وحراماً فإستحقوا مقولة : إذا رأيتَ طائفياً شريفاً فإستحمد الله !!، وفي عهدهم المبارك لم يتبق شيئ يُسرق في أرض الرافدين ، لأن الحواسم سرقوا حتى التماثيل البرونزية ومن ضمنها تمثال السعدون ، وسرقوا تأريخنا وشواهد حضاراتنا في عشرة آلاف وخمسمئة قطعة آثارية ، بعد دخول الأميركان والفوضى التي ضربت أطنابها في العراق بعد هرب العتوي ( سيف العرب ، والقائد الضرورة ) ، والذي لم يختبأ في بساتيق كهرمانة حفظاً لماء الوجه ، بل في جحر الصراصير والفئران !!.
وكم يُذكرني كل هؤلاء الحكام التيوقراطيين بقول الشاعر : قومٌ إذا صَفعَ النِعال وجوههم ............ يَشكو النِعال بأي ذنبٍ يُصفع
في نهاية المطاف تقريباً أصل إلى ( دوندرمة الصبايا ) ( ice cream ) ، وكما كان يقول صديق طفولتي أياد بابان :
وفي أماسي الكرادة الشرقية ........... كل يوم زرنة وطبل وجوبية
في تلك العصاري والأماسي الحارة ، كان الزحام على أشده عند دوندرمة الصبايا ، ربما كان نوعاً من الأستعراض للشباب والصبايا وبدون تحضير أو موعد مسبق أو إتفاق ، كانت دعوة مفتوحة للجميع ، وكانت الدوندرمة تُساعد على إطفاء حرائق الفكر والنفس والجسد .
هناك كُنا نرى الفتيات الفاتنات من كل عمر ونوع ، بإبتساماتهن وعطرهن وتنانيرهن القصيرة وخدودهن التي تشبه تفاح بغداد ( خد وخد ) ، وتغنجهن ونهودهن التي تكاد تتحرر وتثب من حمالاتها وعيونهن التي أستطيع تمييزها من بين عيون كل النساء في مدن الغرب ومطارات العالم ، ونظراتهن المتلصصة غير البريئة التي تنتقي من يروق لها كما هي عيوننا . كُنَ يعرفن بالضبط تأثيرهن على الشباب الذين كانوا يذوبون كما هي الدوندرمة في الأيدي والأفواه .
أذكر شاباً جريئاً قال لمجموعة من الصبايا : إنتو شنو .. نعمة لو نقمة ؟
أجابته أحداهن وهي تبتسم : ميهم نعمة لو نقمة ، المهم إنتوا بليانة مكاين خربانة وما تشتغل !!. ضحك كل الحاضرين لصراحتها وجرأتها .
في طريق العودة تذكرتُ حكاية كنتُ قد قرأتها في كتب التراث العربي تقول :
[ مر شاعر بنسوة فأعجبه حسنهن فأنشد يقول : إن النساءَ شياطينٌ خلقنَ لنا ..... نعوذُ بالله من شرِ الشياطينِ
فأجابتهُ واحدةٌ منهن بكل ثقة : إن النساءَ رياحينٌ خُلقنَ لكم ........... وكلكم يشتهي شمَ الرياحينِ ] .
تنتهي جولتي فأعود بالباص العمومي إلى ساحة النصر التي هي محطة إقلاع الباص رقم 21 الذي سيأخذني إلى بيتي .
في الليالي الشتائية أو الصيفية كان ( أبو الفشافيش ) وهو بائع الكبد والقلوب والتكة والمعلاق المشوي ، يشارك موظفي مصلحة نقل الركاب الحكومية بإحتلال الرصيف الذي يقع بين ساحة النصر وشارع تونس في منطقة البتاويين التي سُميت بهذا الإسم لأنها كانت في السابق منطقة سكن صُناع قماش البتة .
أثناء إنتظاري لأقلاع الباص كان يُهاجمني دخان منقلة أبو الفشافيش ورائحة الشواء الحريفة التي لا ترحم ، وكغيري من العراقيين لم أكن أملك المناعة المضادة لوحش المشويات . لذا كنتُ أتحلق مع بقية الزبائن حول المنقلة وأطلب عشرة أشياش فشافيش !!، ولا عجب لو علمنا بأن حجم ( الفشة ) الواحدة كان أكبر بقليل من حجم الذبابة !!. وسعر الشيش الواحد كان عشرة فلوس فقط ! يا بلاش .
كان يخرط اشياش الفشافيش العشرة في باطن قرص الخبز المدور ، مع بعض الكرفس أو المعدنوس أو الكراث والرشاد ، وربما على الجانب شيش طماطة وبصل مشوي ، مع قدح ماء مثلج . وبعد كل هذا ( الترف ) البغدادي الأصيل "فالموت حق" كما كان يقول البغدادي حين يشبع .
وكم كان يبتهج ويفاخر ، أبو الفشافيش ، حين يرى مدى إستمتاعنا بمشوياته ، ويروح يناغينا من أعماقه الطيبة :
وين مينزل يهلهل عيوني ، الف عافية أغاتي
ويُعالجك بإستكان جاي مُهيل أو أبو الدارسين أو جاي حامض بالنومي بصرة . كان يضع عدة إستكانات مع مواعينها على إمتداد كفه وساعده الأيسر في توازن عجيب ، ويضع داخل كل إستكان عدة ملاعق سُكر ولا يهمه إن أعجبك السكر أم لا ، ففي الأوساط الشعبية ليس مهماً أن تعجبك بعض الأمور ، بل مهم جداً أن تتقبلها بإمتنان وتتعايش معها .
وبالقوري المُزخرف يصب الشاي في تلك الأقداح الزجاجية على ساعده الأيسر ، كان احياناً وعندما يكون الزحام على أشده يرفض أن يأخذ ثمن الشاي ، فرحاً وإمتناناً للزحام والرزق الجيد لذلك اليوم ، وكلما تدريع ( تجشأ ) أحد المشترية ( الزبائن ) بعد رشفة شاي طويلة ، يجيبه أبو الفشافيش مُداعباً :
" إكلَمْ ... أنعَلْ أبو العِزَمْكَمْ " .
يتحرك الباص رقم 21 ( أبو القاطين ) ، ولو كانت لفة الفشافيش لا تزال في يدك ، فيمكنك ( سرطها ) في الطابق العلوي من الباص ، حيث النوافذ مفتوحة ، والهواء ( يغربل ) وكأنك في مصيف شقلاوة أو سرسنك أو كَلي علي بيك . ومن الممكن جداً أن تتمتع بغفوة هادئة بعد هذه الوجبة الدسمة ، وتوصي الجابي ( المُحصل ) بأن يحسسك في المنطقة الفلانية ، لأن الطريق كان يستغرق قرابة النصف ساعة على أقل تقدير ، وكان الجابي يقبل عن طيب خاطر ، وحدث في إحدى المرات أن إستيقضتُ وأنا في نهاية الخط ، ولكنهم أعادوني في طريق عودتهم .
أترجل بسلام ، وأتمندل في مشيتي وأنا أصفر لحناً شرقياً لأغنية ما ، أحس بالشبع والتعب الجسدي والإرتياح النفسي ، فقد إختفت مخالب وأنياب مزاجيتي وإلى إشعارٍ آخر .
وقبل أن أصل البيت ، أميز على ضوء القمر رأس أُمي الطيبة القلقة خلف الحائط القصير لسطح الدار ، حيث ينام البغداديون منذ أجيال فوق سطوح منازلهم في ليالي الصيف الرائعة . كانت أُمي كعادتها ، لا يتمكن منها النوم إلا بعد وصولي أو من تأخر من أخوتي ، وحالما تتأكد من وصول آخرنا ، حتى تذهب لتنام وهي مطمئنة وشاكرة الرب الذي تدعو له ليحافظ على بناتها وأولادها ، فشعور العراقيين بالطمأنينة لم يكن يُعادله وزن الأرض ذهباً ، ولم يكونوا يعرفون ما تُخبئ لهم الأقدار والقادمات من السنين العجاف !!.
قبل أن أنام فوق سطح الدار ، أشرب من ماء ( التُنكة ) الفخارية الباردة - الكوز - ، وقبل أن أعيدها أستنشق وبعمق رائحة الفخار المشبعة بالماء ، أه من تلك الروائح الشرقية الخاصة التي أحلم بها اليوم ، والتي كنتُ حريصاً على التمتع بها .
أتمدد فوق سريري ، وأسحب الغطاء فوق النصف الأسفل من جسدي ، وأعب صدري بأنسام الصيف المُشبعة أحياناً برطوبة وندى الليل المُنعش ، وأنصتُ للسمفونية الخالدة التي تعزفها مئاتٌ من ضفادع الساقية العريضة التي تمر من جانب بيوتنا لتسقي مزارع أبو غريب .
أُحدق بالسماء الصافية الأزلية حيث يجثم بهدوء قمرٌ كبير ، ذلك الصديق العتيق المُبتسم الصامت . أُراقب بلايين النجوم والأفلاك والكواكب ، وأُناجي كائناتٍ ما .. أعرف يقيناً إنها موجودة في بعض تلك الأجرام السماوية البعيدة ، والذين أشك بأنهم قد إرسلونا إلى الأرض كجرثومة بشرية لتخليصنا ربما من حرب كونية لم تُبقي منهم أحداً ، أو ربما إننا وبدون أن ندري حقل إختبار يستعملوننا كما نستعمل نحن القردة في تجاربنا !!.
أسرح في أسرار هذا الكون الرهيب اللا متناهي ، وأفرح لكوني ذرة صغيرة جداً فيه ، وقبل أن تستلمني جنية النوم ، تُراودني نفس الأسئلة التي طرحها إنسان كل العصور :
من نحنُ ؟
ومن أين أتينا ؟
وإلى أين سنذهب ؟